رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إحياء هُويتنا فى شهر رمضان


يطلُّ علينا شهر رمضان الكريم خلال ساعات، حاملًا معه أحاسيس روحانية تصاحب أيامه المباركة.. يهل علينا رمضان الذى نصوم فيه تقربًا إلى الله، وتضرعًا إليه وابتغاء لرضائه عنّا.. لكن، اختلف المشهد فى الشهر الكريم فى السنوات الأخيرة عما نشأنا عليه وعما عهدناه من قبل.. فالحقيقة أننا أصبحنا على مدى الشهر نرى تناقضًا بين ٣ مستويات مختلفة من الطقوس والممارسات: فهناك التفكير المعتدل ممن يَرَوْن فيه شهرًا للروحانيات والعبادات والإحساس بالفقير، فيُخرجون الزكاة ويعطفون على الأكثر احتياجًا ويمارسون العبادات والصلاة وقراءة القرآن الكريم باعتدال، ويحرصون على اللمّة الأسرية وعلى ممارسة أعمالهم دون تكاسل، ويشاهدون التليفزيون باعتدال أيضًا، ويتواصلون مع الأصدقاء والأحباء بمودة ورحمة ونفوس راضية.
وهناك على الجانب الآخر نوع يمارس التشدد المقيت ويَرَوْن فيه شهرًا للمزيد من التشدد والامتناع عن أى ممارسات يومية عادية، ويغالون فى العبادات إلى حد عدم العمل، ويرون فى التليفزيون رذيلة وفسقًا ويغلقون كل وسائل الترفيه، ويعتبرون أن الفن حرام ويرددون الفتاوى الدينية المتطرفة بلا وعى وبلا تفكير أو تدبر، وهؤلاء، والحمد لله، ليسوا أغلبية الشعب المصرى، فهم الذين ثار عليهم الشعب المصرى فى يونيو ٢٠١٣.. وهناك فئة ثالثة يمضون معظم أوقاتهم أمام المسلسلات التليفزيونية ولا يعطون الشهر الكريم حقه من العبادات والتقرب إلى الله، وهؤلاء أيضًا والحمد لله ليسوا أيضًا هم أغلبية الشعب المصرى.
إن الشعب المصرى له ملامح لم تختفِ والحمد لله رغم محاولات تخريبها وطمسها.. إنه شعب يحب الحياة ويميل إلى البساطة والفنون والاعتدال فى ممارساته اليومية حتى الآن، وإن حاول بعض المخططين والمتآمرين أن يغيروا من هُويته العريقة ومن وسطيته ومن عاداته اليومية.. لهذا فإننى أعتقد أن علينا أن نتمسك بهويتنا العريقة التى تتمثل فى عاداتنا وتقاليدنا وطقوسنا اليومية وثقافتنا وفنوننا وأكلاتنا التى اعتدنا عليها فى الشهر الكريم.
من مظاهر هويتنا فى الشهر الكريم- والتى أتمنى ألا تندثر- مشهد جميل نراه فى شوارع القاهرة وفى بعض المحافظات، فنجد شوارع وأحياء القاهرة مُضاءة بفوانيس رمضان المصنوعة بأيادٍ مصرية صميمة، وبائع العرقسوس والذرة والترمس ولمة الأسرة حول مائدة الإفطار.. والأكلات المصرية ذات المذاق الخاص فى مائدة رمضان، مثل الفول والطعمية والزبادى والجرجير والشوربة والجبن الأبيض، والفتة والكنافة والقطايف، ومشهد فرحة الإفطار مع لمة العيلة حول المائدة.. والفطاطرى الذى يُشبه الفنان فى عمله أمام المشترين الذين يلتفون حوله فى الأحياء الشعبية لشراء فطائره المتنوعة. ومن المظاهر أيضًا نداء المسحراتى الذى يعلو صوته فى الشوارع حينما ينادى لصلاة الفجر حتى يأكل الصائمون ويشربوا ويؤدوا صلاة الفجر.. وصوت الشيخ محمد رفعت وهو يشدو بآيات القرآن الكريم وبعدها يؤذن للمغرب، ثم مدفع الإفطار القديم على شاشة التليفزيون.. والناس فى الحوارى الشعبية السهرانين حتى الصباح معًا بينما الصغار يلعبون فى الأزقّة والحوارى ويغنون «حالو يا حالو.. رمضان كريم يا حالو» بالفوانيس الصغيرة الملونة.. وزينة البيوت المصرية طوال الشهر استقبالًا لهلاله بفرحة كبيرة، والأغانى المصرية الجميلة التى تعلن قدومه فنتغنى بها لأننا أحببناها به.. ويعلو فى البيوت صوت أغنية «رمضان جانا» لمطربنا الشعبى الراحل محمد عبدالمطلب، فنهلل فرحًا بقدومه.. إنها سمات وملامح علينا أن نعتز بها وأن ننقلها لأبنائنا حتى لا تندثر، ولأنها جزء أساسى من هُويتنا المصرية.
إن رمضان شهر للتكافل الاجتماعى، وليتنا نفكر فى أنه أنسب شهر لإخراج الزكاة خاصة مع ارتفاع الأسعار الحالى، رغم أننا أيضًا نتمنى ألا ترتفع الأسعار أكثر وأن تجد الحكومة وسيلة مناسبة لإيقافها، وذلك لأنها لا تتناسب مع دخل معظم الأسر المصرية.. إن مساعدة الأسر الفقيرة أو دور الأيتام- التى نتأكد من أنها تُمارس دورها بأمانة وإخلاص- هى فى حد ذاتها سعادة لمن يخرجها فى أفضل شهور السنة.. إن كثيرًا من الجمعيات الأهلية المصرية تقوم بإعداد شنط رمضان، وهى إحدى الوسائل التى يمكن بها أن نسهم فى مساعدة العائلات الفقيرة أو الأكثر احتياجًا.
وهناك ظاهرة كانت تصاحب الشهر الكريم ولاحظتُ تقلصها منذ سنة ٢٠١١، وهى موائد الرحمن التى كانت تنتشر فى الشوارع وفى المحافظات، وكانت إحدى الوسائل التى تجمع المُعدمين والأكثر احتياجًا فى موائد مجانية فى لحظة الإفطار، وتم إلغاؤها، ولا أعرف السبب الحقيقى لذلك حتى الآن، وهناك من يقول إنها لأسباب أمنية وحفاظًا على الناس من أى محاولات للتخريب، وهناك من يقول إنها بسبب ارتفاع الأسعار، وهناك من يقول إنها بسبب تغيير الأحوال الاقتصادية لدى من كانوا يقومون بها.. والحقيقة أننى لم أجد سببًا منطقيًا لاختفاء هذه الموائد التى كنت أرى أنها تعكس صورة من صور التكافل الاجتماعى بين المصريين أو بين الغنى والفقير.. وكل سنة ومصر بألف خير، وهل هلالك يا رمضان يا أفضل شهور السنة وأكثرها روحانية. أتمنّى أن يمر الشهر الكريم بكل الخير على بلدنا، وأن يقيه الله شر ما يحدث من حولنا فى المنطقة، وأتمنى أن يكون شهرًا للعبادة والبهجة أيضًا والحفاظ على هويتنا العريقة- التى ذكرتُ بعض ملامحها- لأنها دليل عراقتنا وتميزنا، والمحافظة على هويتنا ضرورة ودور وطنى نؤديه للوطن الغالى فى ظل كل محاولات التخريب فى منطقتنا، والتى لم تفلح فى بلدنا حتى الآن.. فدعونا نجعله أيضًا شهرًا لإحياء هويتنا الثقافية الضاربة فى عمق التاريخ.