رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المناضلون الشرفاء لا يموتون!!


فى ظل محاولة البعض لطمس هوية مصر وتغيير شكل الدولة المصرية، هل نطمع أن يطلق اسم الراحل فرج فودة على أحد الميادين العامة أو حتى على أحد الشوارع تأكيداً للدولة المدنية وتخليداً لذكرى هذا المناضل الشجاع الذى اغتاله الجهلاء برصاص الغدر وقلمه فى يده ؟!

منذ ما يقرب من ربع قرن بينما كنت أتجول فى شوارع حى شبرا بالقاهرة كنت أقف طويلاً أمام إحدى اللافتات الانتخابية لأحد المرشحين لعضوية مجلس الشعب. ويكمن سر وقوفى كثيراً أمام هذه اللافتة بالذات فى أنها كانت لافتة متميزة عن بقية اللافتات التى حولها، فاللافتة كانت تُظهر شخصاً سمين البدن قوياً يرفع يديه إلى أعلى وهو ممسك بهما بقوة، وفوق صورته كُتب بخط كبير وواضح «الوحدة الوطنية هى الحل» مع صورة لهلال يحتضن صليبا، ولكم أعجبتنى هذه اللافتة وأنا فى سن صغيرة لم أكن أعرف بعد ما هى الدولة المدنية ولا الدولة الدينية ولا العلمانية ولا مثل هذه المصطلحات، ولكننى وأنا صبى صغير أدركت أن هذا الرجل يختلف عن الكثيرين ممن حوله, ولكم أُعجبت به، وبشجاعته وببسالته وبسباحته ضد تيار التعصب والتخلف فى المجتمع المصرى، فالرجل رفع هذا الشعار فى الوقت ذاته الذى ارتفعت فيه لافتات أخرى زرقاء اللون كتب عليها «الإسلام هو الحل» وغيرها من الشعارات الدينية التى تدغدغ عواطف ومشاعر البسطاء.

لعلك عزيزى القارئ تريد أن تعرف من هو هذا الرجل الذى سبح ضد تيار التخلف فى حملته الانتخابية منذ ربع قرن تقريباً؟ إنه المفكر الراحل الدكتور فرج على فودة الذى ولد فى الزرقاء محافظة دمياط فى 20 أغسطس 1945 وأغتيل برصاص الغدر فى الساعة السادسة والربع يوم 8 يونيو 1992.

وفرج فودة شخصية عظيمة جديرة بالتقدير والاحترام فالرجل فى حياته لم ينافق أحداً، وكان شجاعاً بفكره وبقلمه فى مواجهة التعصب والتطرف ودعاة الدولة المدنية، والرجل كان سابقاً لعصره لأنه رأى مالم يره غيره من مفكرى ومثقفى عصره، ولقد تنبأ فرج فودة بما نحن فيه اليوم من فوضى وأصولية ومناخ طائفى محتقن.

تصدى الدكتور فودة بقوة لشركات توظيف الأموال، ودافع عن الدولة المدنية بكل ما أوتى من قوة وقال: «إن تسييس الدين وتديين السياسة وجهان لعملة زائفة عاصرها التجاوز وتجاوزها العصر» ولدعاة الدولة الدينية ومن يبغون خلط الدين بالسياسة كان يقول «إن عليهم أن يجاهدوا فى نفوسهم هوى السلطة وزينة مقاعد الحكم وأن يجتهدوا قبل أن يجهدوا الآخرين بحلم لا غناء فيه وأن يُفكروا قبل أن يُكفروا وأن يواجهوا مشاكل المجتمع بالحل وأن يعلموا أن الإسلام أعز من أن يهينوه بتصور المصادمة مع العصر، وأن الوطن أعز من أن يهدموا وحدته بدعاوى التعصب، وأن المستقبل يصنعه القلم لا السواك، والعمل لا الاعتزال، والعقل لا الدروشة، والمنطق لا الرصاص، والأهم من ذلك كله أن يدركوا حقيقة غائبة عنهم وهى أنهم ليسوا وحدهم جماعة المسلمين»

وفى إعلائه لمبدأ المواطنة كان يقول فرج فودة «فى مصر أناس وأنا منهم لو خيروهم بين العقيدة والوطن لاختاروا الوطن» وعن الانتماء للوطن قال «إن انتماء الوطن للمواطن هو المدخل لانتماء المواطن للوطن».

وفى تعليقه على الموقف السلبى والمتردى للمثقفين المصريين قال فودة «يتحمل المفكرون فى عالمنا العربى مسئولية كبيرة فيما حدث من نمو متزايد للتيار السياسى الإسلامى، فهم من البداية قد حددوا مناطق محرمة للحوار أو النقاش، منها ما هو تاريخى مثل ما يتعلق بحوادث التاريخ الإسلامى، ومنها ما هو سياسى مثل واقع الحياة «السياسية» فى الدول التى تطبق ما تدعى أنه النظام الإسلامى، ومنها ما هو فكرى مثل قضايا الفصل بين الدين والسياسة وقضايا الوحدة الوطنية، وقد زاد حجم هذا التراجع مع نمو الاتجاه الإسلامى الثورى، تحسباً للمستقبل وإيثاراً للسلامة، خاصة أن من حاول منهم مناقشة موضوعات «فرعية» مثل الحجاب وبعض قوانين الشريعة، أشبعه المتطرفون والمعتدلون تجريحاً وهجوماً بل وإهانة، وكل ذلك فى تقديرى لا يشفع لمفكرينا فى انسحابهم من مساحات كبيرة من الحوارات تتسع يوماً بعد يوم بزيادة حجم تراجعهم، بل والاستطراد فى الصمت أمام ما يعتقدون أنه صحيح أو فى مواجهة ما يعتقدون أنه خطأ» وقال أيضاً «مصر فى حاجة إلى عشرة كُتاب فى الصحف القومية لديهم الشجاعة على قول لا وعلى التصدى بالمنطق والحجة وقبل ذلك بوضوح الفكر لمن يواجهون المستقبل بعقول مغلقة وجيوب مفتوحة وسيوف مشروعة مصر فى حاجة إلى عشرة كُتاب يخافون على وطنهم أكثر مما يخافون على أنفسهم ساعتها سوف يتغير وجه مصر وقبلها لن يتغير أبداً».

وفى خاتمة كتابه «قبل السقوط» والذى ناقش فيه فرج فودة العديد من القضايا مثل مسألة تطبيق الشريعة الإسلامية وهوية مصر ورفضه للدولة الدينية وللسيف والحكم قال فودة «أخيراً، فما سبق كله كان اجتهاداً قد يخطئ، وقد يصيب، لكنه محاولة لتفسير ما أعتقد مبدئياً أنه مأزق تاريخى، وتوضيح لما يمكن أن يكون خافياً، دون اعتبار لما يترتب على ذلك من نقد أو هجوم أو عداوة، عن إيمان بأن الحوار هو السبيل الوحيد للخروج من هذا المأزق، وأن الكلمة أحياناً قد تمنع رصاصة، لأنها بالطبع أقوى، وبالقطع أبقى».

وفى عملية خسيسة ودنيئة ونظراً لعدم قدرة المتطرفين على تفنيد حجج فرج فودة ومقارعته الرأى بالرأى والحجة بالحجة هاجموه وهو مجرد من أى سلاح إلا سلاح القلم، فواجهوا قلمه بوابل من رصاص بنادقهم، ومات فرج فودة وفارقنا بجسده ولكن فكره الثاقب ورؤيته المستنيرة لا يمكن أن تموت, لأنه كان مؤمناً أن الكلمة أقوى وأبقى من الرصاصة.

وفى ظل محاولة البعض لطمس هوية مصر وتغيير شكل الدولة المصرية، هل نطمع أن يطلق اسم الراحل فرج فودة على أحد الميادين العامة أو حتى على أحد الشوارع تأكيداً للدولة المدنية وتخليداً لذكرى هذا المناضل الشجاع الذى اغتاله الجهلاء برصاص الغدر وقلمه فى يده ؟!

ألم تثبت الأيام صدق ما قاله هذا الرجل منذ ربع قرن من الزمان؟ أعتقد أننا لو كنا صدقناه لما وصل بنا الحال فى مصر المحروسة إلى ما وصل إليه من تديين للحياة العامة وتعصب وتطرف.

تحية من القلب لفرج فودة فى ذكراه الحادية والعشرين.

■ راعى الكنيسة الإنجيلية بأرض شريف – شبرا مصر

هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.