رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشرف عبدالشافي يكتب: يوم أن فاز الزمالك


كنت أظن الصبر على هزائم الزمالك المتتالية والمتعاقبة أمام فريق النادى الأهلى وغيره من الأندية، هو غاية الصابرين ومجد الحامدين!، فالأبيض لا يترك طريقة فى التنكيل بجماهيره إلا ويسلكها، وأحيانًا يبتكر طرائق جديدة على البشرية، فنخرج مهزومين من أندية صغيرة ومتناهية فى الصغر أحيانًا، وبعدها بيومين أو ثلاثة على الأكثر تلتهب شباكنا بركلات القدم والرأس والمؤخرة، ويتكرر الالتهاب فنضع المراهم والكريمات ونرتدى أقنعة القوة والصلابة ونخرج لنواجه فضائحنا، التى أصبحت هواية الأهلاوية وحفلات صاخبة لا تنقطع، تترسخ وتتأكد عامًا بعد عام وكأسًا بعد أخرى، وكلما قلنا «الزمالك قادم» يخذلنا ويتأخر!، إهانة لا نهاية لها، شط مفتوح من خيبة الأمل وعدم الثقة فى الفوز بمباراة مهما كانت مضمونة ومهما هز المحلل الرياضى كتفيه، مؤكدًا سهولة دخول الأهداف الزملكاوية، فتدخل فينا!.

أقول لك كنت أظن الصبر على تلك المحن غاية كبرى، حتى داهم المرض جسد سيدة هى الأقرب إلى قلبى وروحى، نعم فعلها فى غمضة عين، جثم على قلبها وقلبى فأطار برجًا من رأسى وهو يتمدد كل يوم وينتشر كإعصار يعصف بنهر الدم الهادئ ويفتك بكراته البيضاء والحمراء ويهزم ضحكتها بجبروته وقسوته، كنت أراه كثيرًا حولى وبين جيرانى ومعارفى، وكثيرًا ما ظننته بعيدًا عنى وعن أحبائى، حتى جاء بكامل هيئته القبيحة وقرر الإقامة بيننا، فلم أحتمله وصرخت لاعنًا الحياة وما فيها وعليها، ناقمًا على مَنْ حولى ومَنْ يتمتعون بالصحة والحياة الهانئة، وبرق ضوء لا أعرف مصدره فهدأتْ روحى، وقلت: الصبر، وكررتها: الصبر، لكنها كانت «كلمة» أنطقها مثل ببغاء تافه فتخرج مجردة وضعيفة وغير واضحة، فقذفتها بعيدًا وتلفتُ حولى وحيدًا، تائهًا فى حياة واسعة ومتلاطمة، وأمسكت بالألف واللام فزرعتهما فى جبينى وغرستهما أكثر حتى ظهرت أوراق خضراء ظلّلت على عينى ووجهى جحيم شمس حارقة، وصنعتُ من حرف الصاد لافتة كبيرة تغطى القلب والرئتين وتستريح الباء تحتها على شكل درع حربية، تصد السهام وتواجه همهمات الأطباء الغامضة فى الغرفة الباردة، وتفرم الروشتات وإحباطات التحاليل واستدعاء الممرضات فى ليالى الألم، بينما الراء تهبط مثل مروحة ناعمة تطوى الأيام وتهدئ الروع وتنشر الهواء البارد من أسفل إلى أعلى، فيهتز فرع من الألف واللام على جبهتى.

لم يكن الوصول سهلًا، بحثت عن معناه وقوته فى يد الأنبياء والرسل والمعذبين فى الأرض قاطبة، فتشتُ عنه عند أجدادى وأجدادك المصريين وهم جوعى يضعون البذرة وينتظرون مواسم الحصاد وظهور الثمار، تحسستُ حروفه فى الأغانى والمواويل والأمثال الشعبية، أخذته من نبرات أولياء الله الصالحين وحناجر الصابرين على الهم والغم وسوء المقام، واستغفرتُ وتوبتُ وأنبت وزرعته فى سائر جسدى، وفى كل يوم أتغذى على ثماره المرة حتى تعودتها فلم تعد تجزع روحى كما كانت تفعل فى البدايات.

دعك من الدراما التى أكتبها لدغدغة مشاعرك واستدراجك لما أريد أن أقول، فتلك حيل بليدة أسلكها كى أصل إلى قلبك إن كنت أهلاويًا متعصبًا، فلم يكن فوز الزمالك على الأهلى بالأمر العادى بالنسبة لى يا صديقى، فقد تمرنت على الصبر فى ملاعب كرة القدم قبل هذه التجربة العظيمة، اخترت تشجيع الزمالك بعد الثلاثين من عمرى وكنت فى مأمن تام وأنا أنعم فى سنوات طفولتى وشبابى بتشجيع الأهلى، لكننى تمردت على النعيم المقيم، وقررت الخروج إلى جحيم الهزائم والفشل والحسرة، وكدتُ أعود مرات إلى دين أشقائى الكبار الذين قاطعونى، وفكرت كثيرًا فى الندم والاستغفار من قسوة ما رأيت وصعوبة ما وجدت، لكن حلمًا ظل يراودنى، يظهر ويختفى، يغطس طويلًا فلا أراه بالشهور والسنين أحيانًا، أتوه فى الدنيا وتأخذنى موجات وراء أخرى، وأظل منتظرًا لحظة هز الشباك كعاشق ينتظر طلة المحبوب الجميل الخد والقد، الملفوف الجسد وحلو الطعم، المعجون بالفل والياسمين والدلع والفرفشة ورنة الخلخال، غالى الطلة ورفيع المقام، تنتصب له الرايات وتعلو على هامته الحاجات والمحتاجات، وإن ظهر ضحكت الدنيا وابتهجت الابتسامات، وهذا نوع نادر من الجميلات بالطبع، ولا أخفيك سرًا فقد خصنى وحدى بالظهور ليلة خميس كما يغنى المطرب محمد عبده غنوته الشهيرة وفاز الحلم وانتصر، وكلما أكدت جماهير الأهلى أن الفوز عليهم جاء بعد غياب عشر سنوات أو يزيد، ازددت فخرًا شخصيًا بقيمة الصبر والاحتمال، واعتبرت الفوز انتصارًا عظيم المعنى والقيمة، وتلك أمراض نفسية بالطبع يقول عنها علماء النفس «ماخوتية أو ماشوستية»، أى الاستمتاع بتعذيب الذات، وهناك عدد من البائسين أمثالى مصابون بتلك الأعراض، فلا تقربوهم حتى يأذن لهم الله بفرج قريب أو بعيد، ولا تتعمدوا تجريحهم، فهم غلابة وفقراء إلى الله.. عايزين نرجع الملاعب، إحنا معانا الصبر، والفوز حليفكم.. يا أهلاوية.