رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شرع الله


خبران متجاوران، فى صفحة واحدة هى صفحة «حوادث وقضايا»، (جريدة يومية، الإثنين ٢٣ أبريل الماضى)، أشعرانى بقلق عميق، إن لم يكن بفزع شديد، وجعلانى أحس بأن شيئًا ما، خاطئًا وكريهًا، يبسط هيمنته على زماننا ومكاننا، ويشى بأن مستقبلنا فى خطر، بعد أن قام هذا «الشىء» بتسميم أجواء الماضى، وفرض حضوره الطاغى، والكئيب على الحاضر.
الخبر الأول المُرَوِّعُ مفاده أن طفلةً بريئةً فى عمر الزهور، (أربع سنوات)، ذبحها عاطلٌ استدرجها من أمام منزلها، إلى حرم مسجد قرية «برطس»، (مركز أوسيم بمحافظة الجيزة)، وحاول اغتصابها، فلما بكت وصرخت، وخشية افتضاح أمره، قرر العاطل القاتل، (وهكذا بمنتهى البساطة)، ذبحها، وأكمل جريمته الشنيعة: قتلها، وألقى بجثتها فى حمام المسجد وفر هاربًا.
أما الخبر المُرَوِّع الثانى فلا يقل بشاعة عن الخبر الأول، ومفاده أن سبعة أشخاص، يقطنون بـ«شارع الثلاّجة» فى محافظة الجيزة (أيضًا!)، اشتركوا فى سحل وقتل شاب (٢٨ عامًا)، فور إطلاق سراحه، بعد تنفيذ عقوبة سجن فى قضية مخدرات، والسبب قيامه، قبل سجنه، بإطلاق طلقات من بندقية خرطوش، أصابت فتىً وأدت إلى إحداث إعاقة ذهنية دائمة له، وإلى إصابة عين شقيقته برش الخرطوش، وهو ما أدى إلى فقدانها بصرها، ثم وفاتها بالصعق الكهربائى من سلك مكشوف فى مروحة، اعتبر، على إثرها، أبوها وأقاربها، أن الشاب يتحمل مسئولية موتها بما تسبب فيه، وأدى إلى مقتلها، وقرروا الانتقام، حيث سحلوا الشاب وقتلوه، وسط الشارع، على مرأى ومسمع من الجميع.
والمذهل أن والد الفتاة، أحد المشاركين فى عملية السحل حتى القتل، برر- ببساطة- فعلته، معترفًا، فذكر أن المقتول: «ضيّع نظر بنتى، وتسبب فى موتها، واللى عملناه معاه للقصاص لأولادنا، وهذا شرع الله».. ولنا على هاتين الجريمتين المروعتين بعض الملاحظات، نُجملها فى الآتى:
أولًا: أن القاتل فى الجريمة الأولى شابٌ فى عنفوان شبابه، عاطل عن العمل، ومسرح الجريمة باحة بيت من بيوت الله، والضحية طفلة تخطو خطواتها الأولى فى الحياة، لم يتورع المجرم عن انتهاك براءتها وقتلها بضراوة، ولم يثنه المكان الطاهر، ولا أى اعتبارات إنسانية أخرى عن محاولة الفتك بها، ثم قتلها ذبحًا، دون أن يرف له جفن.
وثانيًا: أن المجرمين، فى الجريمة المُركّبة الثانية، لم يترددوا فى محاكمة المتهم، وإصدار الحكم، ومباشرة تنفيذ العقوبة، دون أدنى اعتبار للقانون، أو لآليات إنفاذ العقوبة، أو لأى اعتبارات إنسانية أخرى، منتزعين لأنفسهم حق تنفيذ ما يرونه قصاصًا عادلًا، وإنفاذًا لـ«شرع الله».
وثالثًا: وفى الحالتين غابت الدولة غيابًا كاملًا. حتى وإن كانت موجودة شكلًا، فدورها الحقيقى، فى الحالة الأولى، غائب، وكان واجبها أن تكون حاضرةً بقوة بتوعية أمثال هذا الشاب، وتوفير فرصة عمل حقيقية تنتشله من بؤسه، وتساعده على إفراغ غريزته بشكل مشروع وإيجابى.
وهى، فى الحالة الثانية، لم تكن حاضرة فى الوعى والحركة، حضورًا ينطلق من ثقة الناس فى كفاءتها ونزاهتها، وفى سرعة القصاص من المجرم وإنفاذ العدالة الناجزة، وفى احترام هيبتها ووجودها فى الشارع المصرى، الذى يرزح تحت وطأة الفقر، والبؤس، والعشوائية، والقذارة، والفوضى، والجهل... إلخ.
والرابعة: أن المؤسسة الدينية غابت هى الأخرى غيابًا كاملًا عن المشهد، فهاتان الجريمتان، تكشفان عن ضحالة الوعى بدعوة الدين للسماحة وحفظ الحياة الإنسانية، وبأمن وطهارة بيوت الله، وغابت فى انتزاع عوام الجمهور لحق الدولة فى الثواب والعقاب، بل لحق رب العباد فى القصاص وتطبيق «شرع الله».. جرس إنذار جديد يدق. فهل من مستمع؟!.