رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشرف عبدالشافي يكتب: وزارة بَليدة.. وثقافة مجيدة


عندما استعرض الناقد على أبوشادى، رحمه الله، أفلام السينما المصرية عن حرب أكتوبر، كتب مقالًا عبقريًا بعنوان «حرب مجيدة.. وسينما بليدة»، وأنا سرقت منه العنوان لأكتب عن ثقافتنا العظيمة ووزارتنا العقيمة، فكل ما كنت أحلم به فى السنوات الماضية للثقافة المصرية لم يتحقق، ربما لفرط سذاجته أو لمبالغات فيما كنت أكتب أو أتصور، عمومًا فقد جربت النزول إلى أرض الواقع، بدلًا من الكتابة وانخرطتُ للعمل فى لجان المجلس الأعلى للثقافة، وتحطمت طموحاتى بعد ستة أشهر من الإحباط والملل.

أنت أمام منظومة جامدة تم وضعها فى الجبس والأسمنت، وكل من يقترب تتحطم رأسه على صخرتها، وسيظل الحال كذلك مهما تعددت الجهود وتنوعت الأفكار، ويعرف المثقفون ذلك منذ زمن بعيد.. لكن كل شىء باقٍ كما هو لم يتغير!، وزارة فى وادٍ.. ومثقفون فى شوارع طويلة وممتدة.. من الملل والإحباط، وبما أننا على مشارف ولاية جديدة للرئيس، ومن حقى أن أحلم من جديد، فهذه بعض أحلامى التى قد تبدو رومانسية أو طفولية، لكنها تعبر عنى ولا تتكلم بلسان شخص آخر.

الأدباء والكُتاب فى بلادنا غرباء، ليس لأن معظمهم قادم من القرى البعيدة، ولكن لأن حرفة ومهنة الكتابة نفسها غريبة، فلك أن تتخيل رجلًا يسكن فى الشقة السابعة بين ست شقق أخرى أصحابها موظفون ومهندسون وأطباء بينما هو «كاتب»، فلا يعرف جيرانه إن كانت تلك حرفة أم هواية أم جنون، وهؤلاء المجانين متناثرون فى الأرض بين الحوارى الصغيرة والشقق الضيقة، لا يريدون شيئًا سوى وطن كريم يكتبون عنه ويحلمون معه ويضيئون الطريق أمام أجيال قادمة ببعض الروايات أو القصص أو الخواطر الثقافية، وعندما يمرض أحدهم لا يدرى به أحد سوى مجموعة من الكُتاب أو المجانين الغلابة مثله، فلا نجد له مكانًا يستقبله لحين تشخيص حالته، فنتوه بين عيادات فقيرة وأطباء متواضعين، وقد يموت بين أحضاننا كاتب شاب أو روائية صغيرة كما مات غيرهما من شعراء وروائيين ومفكرين عبر سنوات طويلة مضت، ويتكرر الموت بشكل درامى ونسكب الدمع، وننتظر مريضًا جديدًا أنهكت الحياة قلبه أو هتك المرض كبده أو نهش السرطان جسده، فلا نجد مستشفى يليق بأدباء مصر وكُتابها ومترجميها وعلمائها ومفكريها بعيدًا عن سلطة اتحاد الكُتاب ووزارة الثقافة، وكل قطاعات الروتين والإجراءات التى يموت الناس قبل إنهاء جزء منها، وإن كان هناك مطلب للمثقفين، فلن يكون أهم من حمايتهم وتأمينهم من مخاوف المرض، من خلال مستشفى يحمل اسمهم وتتزين حوائطه ومداخله وغرفه بأسماء عظماء مصر فى الفنون والآداب من طه حسين إلى يوسف إدريس ونجيب محفوظ.

فشلنا وسنفشل دائمًا وأبدًا فى إعادة هيكلة وزارة الثقافة، ومهما بذل القائمون عليها من جهود، فستبقى مهلهلة ضائعة بائسة، رغم أنها ثروتنا الوحيدة والأغلى بين ثروات البلاد، لذا.. وكما طالبت مرارًا وتكرارًا.. فقد أصبح تحويلها إلى وزارة سيادية مثل الدفاع والداخلية أمرًا لا بديل عنه، وأصبح وقف نشاطها التقليدى والروتينى ضرورة لا مناص منها، كى تتوجه كل جهودها وأموالها لصحوة شاملة فى قصور الثقافة تستنهض الهمم وتعيد أمجاد مصر التى يحارب جنودها على جبهة القتال.. وتنفض الغبار عن فرق الفنون الشعبية فى كل قرى مصر، لتجديد الهوية المصرية، وتنشيط الذاكرة بموروثنا الغنائى والثقافى الذى داسته جحافل الجماعات الإسلامية من منتصف السبعينيات وحتى اليوم.

الثقافة.. اليوم هى السلاح الفعال القادر على تغيير حالة الاكتئاب والملل التى يعيشها معظم المصريين، خاصة فى الأقاليم التى تتألم كل صباح على مواهب أولادها التى تضيع بفضل حالة الخراب التى تغرق فيها بيوت وقصور الثقافة، وتحتاج الثقافة قرارًا جريئًا كى يتغير المجرى الثقافى، ليبدأ من الأطراف ويصب فى القاهرة، صانعًا موجات جديدة كما صنعت فترة الستينيات والخمسينيات، تيارات من الفنون ما زالت تسكن وجداننا حتى اليوم. فليس هناك خلاص لمصر من فقرها الثقافى والمعرفى سوى الثقافة والفنون، فقد انفرط العقد ولا طريق لإعادته إلا بالغناء.

القضية ليست فى المسئول عن الثقافة، لكنها فى قادة الفكر الذين تركوا السلاح، ومزقوا الخرائط، وتفرغوا لمعارك الجوائز والسفريات، وتعاملوا مع وزارة الثقافة باعتبارها ملكًا لمن يتوزر عليها، فابتعدوا عنها تمامًا، فى حين استسلم فريق آخر من المثقفين لجبروت المؤسسة وقواعدها، وخضعوا للهيكل الوظيفى، وضاعت كل التجارب السابقة فى توعية الناس ونقل الفنون والعلوم إليهم، وتضاربت مهام هيئات الوزارة، لكن مصر اليوم تحتاج مشروعًا قوميًا للثقافة والمعرفة، تحتاج تكسيرًا وتحطيمًا للروتين والجمود بين الوزارات والقطاعات، وما كانت «الثقافة» إلا فكرة ابتكرها الكاتب والمفكر «أحمد أمين» من خلال مشروع الجامعة الشعبية التى ابتكرها فى الأربعينيات. كان الرجل مديرًا للثقافة فى وزارة المعارف «التعليم».. وفكر فى تثقيف وتوعية الفلاحين والعمال والحرفيين فى المحافظات، وتطورت الفكرة لتصبح جامعة شعبية، ثم تطورت أكثر فكانت قصورًا للثقافة فى القرى والنجوع تابعة لوزارة الإرشاد بقيادة فتحى رضوان ثم ثروت عكاشة.

عشرات من مثقفى مصر الكبار، يعرفون أوجاع الوزارة أكثر منى، ويستطيعون إعادة توجيهها، بما يمتلكون من خبرات خاصة فى مجالات التراث والفلكلور، وتوصيل المعرفة إلى الأطراف البعيدة، وتتحصن مصر ثقافيًا بفلاحيها وعمالها وجنودها، ونغلق أبواب الجحيم أمام خفافيش الظلام الصغيرة التى تتربى كل يوم فى زوايا التطرف لتكبر فاقدة معنى «المصرية» وقيمة الانتماء لوطن بحجم ومكانة مصر، فتتحول الرءوس الصغيرة إلى مخازن للسلاح وقنابل تنفجر فى وجوهنا.