رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشرف عبدالشافى يكتب: بنات يناير


هل تختار أن تصبح «نخلة» باسقة مرتفعة شامخة تكتوى بالصهد فى الصيف، أم تكون قطعة خضراء جميلة من «نجيل» يتمدد فى الأرض، مستمتعًا بالظل الرطب والهواء العليل؟، سألنى الكاتب الكبير محمد مستجاب، رحمه الله، هذا السؤال المباغت، وكانت تلك عادته مع ضيوفه من الصغار والكبار، إذ يفاجئ الحضور باختياره شخصًا يُلقى عليه السؤال، كمن يقذف بضفدع لزج بين فخذى فتاة صغيرة، ويتركه يحاول النجاة من الفخ، فإن أصاب حصل على عضوية دائمة تسمح له بحضور جلسات مستجاب الكبير، وإن ارتبك كالفتاة مع الضفدع فهو ضحية الليلة للسخرية والتوبيخ.

وسقط قلبى وتلاحقت دقاته وانحسر الدم فى القدم تقريبًا، ولم يكن هناك متسع للتفكير والحال كذلك، فقلت «نخلة»، فصوّب عينيه نحوى وسأل بخبث: «وهتستحمل صهد الشمس ياض؟»، فقلت: «أفضل من أن تدهسنى أقدام الأغبياء وغلاظ القلوب وتهرسنى أحذية الجبناء».. فنجوتُ بدعوات أمى ونباهتى المبكرة التى جعلتنى صيدًا ثمينًا لمن يمتلكون الحجارة ويجيدون التصويب ويفتقدون العقل، وهؤلاء حولى وحولك فى كل مكان، مجانين يمتلكون أكوامًا من الطوب والدُشم الجاهزة للإطاحة برأسك وتفتيت جسدك إن ذكّرت أحدهم مرة بأنه قطعة بائسة من نجيل فاسد ومدهوس ومتعفن فى الأرض، ولا تسألنى عن الحكمة فيما أقول لك، فتلك مجرد ذكريات مع كاتب كبير استحضرتُ روحه وأنا أتذكر تلك الواقعة، ففى يناير الماضى اتصلتُ بصديق أثق فى انتمائه لثورتى يناير و٣٠ يونيو، وعرضتُ عليه تأسيس جمعية بهذا الاسم «بنات يناير».

تستوعب كل من نعرفهن من فتيات تعثرتْ بهن الحياة بعد الثورة وقستْ عليهن ظروف الحياة وتلاحقها، فرحّب الرجل بالفكرة واتفقنا على إعلانها كمؤسسة أهلية تصون حقوق عدد كبير من بنات شاركن فى ثورة يناير، وأصبحن اليوم أمهات ومطلقات وأرامل وهن فى مقتبل الحياة، لكنه استأذننى فى عرض الفكرة على مجموعة من الأصدقاء والحقوقيين لتوسيعها وترويجها بشكل قانونى.. وبعد أسبوع تقريبًا جاءنى الرد الذى لم أتوقعه، وتم اتهامى بمحاولة تشويه ثورة يناير وتحويلها إلى مقبرة دفنتْ البنات وشرّدت الصبايا وأفشتْ الدعارة بين قطاعات الشباب!! وبحلقتُ مدهوشًا مصدومًا فى الرد، وضحكت بصوت عالٍ على سذاجتى وطفوليتى العبيطة!، كيف لم أنتبه لخطورة التفكير فى هذا المشروع وما يحمله من تآمر صهيونى عتيد على ثورة يناير؟! وحاولتُ جاهدًا أن أنسى الموضوع وأتوقف تمامًا عن هذا التفكير الهدام؟!، وأعلنتُ التوبة وكفيتُ على الخبر «ماجور» كبيرًا جدًا، حتى رأيتها أمامى تجلس فى زاوية من المقهى، ورحتُ أشب برأسى بين أكتاف الجالسين لأتأكد أنها هى وليست فتاة تشبهها! تهدّل جسدها وتاهت ملامح جمالها وحُسنها فى كُتل لحم تبظ من الجانبين والبطن، حتى الابتسامة أصبحت شاحبة وممرورة.

أين ذهب بريقها وحيويتها وخفة روحها التى كانت تتقافز بها عندما رأيتها منذ سبع سنوات مضت؟!، وسألتُ وعرفتُ أنها تزوجت فى أجواء الزهو بالثورة وبريقها الآخاذ، أحبتْ شابًا وأقنعت العائلة به، فتركها وفى أحشائها بذرته التى كبرت وأصبحت الآن طفلًا فى الخامسة تحمله على كتفها وظهرها وقلبها دونما سند أو معين، لا تستطيع الشكوى وتأبى كرامتها الانكسار، ولا تملك رفاهية الندم، والحياة ترس يلف حولها يهرس جمالها ويفرتك حيويتها، عشرات مثلها رأيتهن صغيرات، وفوجئت بهن أمهات وحيدات فى حياة مزعجة ومجتمع يكره البنات بشكل عام، ويخص المطلقات الصغيرات بجحيم من النظرات والهمسات المؤذية.. فراودتنى الفكرة مجددًا.

وها أنا فى هذا الصباح الربيعى من عام ٢٠١٨، وبعد مرور سبع سنوات على ثورة يناير، لا يسعنى إلا مطالبة كل من تقع عيناه على هذه الحروف بدعم هذه الفكرة حتى إن اتهمونا بالخيانة والتواطؤ والعمل لحساب أجندات وجهات غامضة، فإن كان ليناير حلم يستحق التخليد فالبنات اللائى صدقن الحلم أولى به اليوم وغدًا وكل يوم، البنات اللائى خرجن بحثًا عن هواء الحرية وتعثرت أقدامهن الصغيرة فى الانتهازيين ولصوص الثورات هن الأبقى والأحق بالرعاية حتى يُرضعن أولادهن حرية وقوة، بدلًا من الانكسار والعزلة والألم، فلنفعلها ونجعلها دعوة مفتوحة لمن يستطيع العون، فلنفعلها دونما خوف وترهيب من نجيل متآكل ومدهوس بالأقدام.