رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا الانتخابات الرئاسية


هذا المقال فيه سمٌ قاتل، فيه من الرأى ما لن يرضى عنه الكثير.. ربما لا يُعجب البعض، وربما يرونه مرفوضًا من منظور الانحياز السياسى، أو من باب الكسل الذهنى، وممارسة حق الرفض والاعتراض لا أكثر ولا أقل، لكنها الحقيقة المجردة من العواطف، والرغبات، والتصورات الزائفة، هى الحقيقة كما رأيتها على الأرض، وكما رصدتها فى الشوارع، وكما استراح إليها قلبى، وصدقها عقلى، وكتبتها يداى..
ليس لوجه الله، ولا لوجه الحفاظ على الأصدقاء، أو اكتساب المعارف، ولا الأموال. فقط لوجه الوطن، والحقيقة، والتاريخ. ليقرأها كل من أراد بالطريقة التى يريد، ولتنطلق الاتهامات، و«البلوكات»، ولا مانع من بعض السباب أيضًا، ولكن قليلٌ من العقل، والتأنى، والتطلع لرؤية النور، والعمل من أجل مستقبل أولادنا، ربما يكون كافيًا لإدراك أن ما عشناه خلال أيام الانتخابات الرئاسية، هو التعبير الأوضح، والأمثل عن طبيعة، ومكونات الحياة السياسية فى مصر، منذ ثورة يناير، وحتى يومنا هذا. وربما يكون دليلًا للجميع لما ينبغى الاستعداد له فى مستقبل الأيام.. ربما يُصلح الله أمر من ركنوا إلى «تويتر» و«فيسبوك»، ولم يدركوا بعد أن العمل السياسى مكانه الأرض، والشارع، ولا قيمة له إن ارتاح إلى الواقع الافتراضى.


الجميع متعجلون متطرفون وجاهزون بسكين التخوين و«يا كده يا مش لاعب»

لى قائمة طويلة من الأصدقاء والمعارف على طرفى معركة الانتخابات الرئاسية ٢٠١٨، أتابع الجميع، وأراقب ردود أفعالهم جميعًا، بتأنٍ وصمت. وإن كان لى أن أطلق وصفًا على ما رصدته من خلال هذه المتابعة التى استمرت منذ ما قبل انطلاق الماراثون الانتخابى، أو الاستحقاق الرئاسى الثالث بعد ثورة يناير، فإنها رغم ما فيها من غياب للمنافسة، معركة انتخابية حقيقية إلى أقصى درجة، لا تختلف عن سابقتيها بأى حالٍ من الأحوال، استخدمت فيها الدعاية من الجانبين بكثافةٍ، وعنفٍ، يصلان إلى درجة الحماقة، بل ودخل على خطها أطرافٌ لا ناقة ولا جمل لهم فيها، أو هذا ما يبدو من السطح، بينما هم فى حقيقة الأمر، الطرف المنافس، أو الجانب المعارض، وإن كانوا قد أخفقوا فى التحقق العملى، على أرض الواقع، من خلال مرشح فعلى للانتخابات الرئاسية، أو حتى الاتفاق على اسم يصطفون خلفه، ويدعمونه كمرشح، فإنهم لم يكن أمامهم إلا أن يختاروا بين أمرين، إما المقاطعة وإبطال أصواتهم، أو الحياة فى فضاء مواقع التواصل الاجتماعى، وهذا بالضبط ما حدث فى الاستحقاقين السابقين، صورة طبق الأصل، ودون زيادة أو نقصان. ناهيك عن أن جميع أطراف المعركة التى انطلقت مبكرًا، متعجلون، يريدون حسم الأمر لصالح ما يريدونه وحدهم، دون غيرهم، وكأن مصر قد تحولت، فى أذهانهم إلى مقاطعة صغيرة، أو إمارة لا تحتمل التعدد، يمكن لأى حفنةٍ محدودة التصورات، والأعداد، أن تحكمها، أو تسير بها وفق ما تريد، ومنذ اللحظة الأولى، و«يا كده يا مش لاعب».
والجميعُ، كما بدا لى، متطرفون، جاهزون بسكين التخوين، ومستعدون للاستمرار فى حبل الاتهامات بلا سقفٍ، وبلا حدود، وكأنه لا فصيل وطنى، أو غير مستأجر غيرهم، وكأن الجميع عملاء وخونة، أو مستأجرون يعملون وفقًا لمخططات خارجية، «يا راجل ده حتى (الحكومة) قالوا إنها تعمل وفقا لأجندة سعودية إماراتية»!!.
اللافت أيضًا، أن من يدعون الانتماء إلى معسكر يناير، ظلوا خلال المعركة الانتخابية، وما قبلها، يهدرون المكسب الأكبر لتلك الثورة، بكل ما أوتوا من سبل، فلا هم استطاعوا طوال سبعة أعوامٍ الاتفاق على تصور للحياة فى مصر، لا سياسى، ولا اجتماعى، ولا اقتصادى. لم يستطيعوا التكتل فى فريق، ولا الاصطفاف خلف فكرة واحدة، اللهم إلا «طيش المراهقة الثورية»، أو السير فى ركاب «مجازات الشعراء»، وأحلام اليقظة التى لا تهم أحدًا غيرهم، ولا تجد طريقًا إلى الناس، أصحاب المصلحة الأولى فى هذا الوطن. فعاشوا على منصات «تويتر»، و«فيسبوك»، وفى ظلام الحجرات المغلقة، وجلسات الفضفضة الثورية»، دون وجودٍ حقيقى، مؤثر، أو فعال.

أطراف المشهد.. بعضها طبيعى وأغلبها صناعى

للمشهد الانتخابى مجموعة أطراف، بعضها طبيعى، وأغلبها أطراف صناعية، وكل منها استخدم ما أمكنه من أسلحة وأدوات، وكل منها نال ما له من حظوظ، وحصد نتيجة ما بذله من جهود، كلٌ حسب موقعه من المعادلة المصرية الصعبة، وحسب مساحات وجوده، وتأثيره، لا حسب الأمنيات، والتصورات الحالمة والخائبة فى آن واحد.
يتصدر المشهد، بالطبع، الرئيس المنتهية ولايته الأولى، عبدالفتاح السيسى، بما له من حضور لدى قطاعات الشارع، بفئاتها وطبقاتها الاجتماعية كافة، فقراء، ومتوسطة، وأثرياء، وذلك حسبما ظهر من نسب الإقبال على التصويت، ومن خلال التطوع للدعاية له، بل ومن الإحجام عن منافسته من الأحزاب السياسية التى بلغ عددها فى مصر حدًا غير مسبوق، وإخفاق التيارات المناوئة فى تسمية ولو مرشحٍ واحدٍ بلا شائبةٍ تسوؤه، أو تقف كحجر عثرة فى طريقه. وبما له من إنجازاتٍ يراها البعض واضحة جلية، ويشكك فى جدواها البعض، ويهاجمها البعض بمجرد الإعلان عنها، ودون حتى معرفة بحظوظها من النجاح والإخفاق. وهو ما أظن أنه أمر طبيعى فى بلد يقترب عدد سكانه من المائة مليون، وكل نسبة منها، مهما كانت ضئيلة سوف تحمل فى طياتها عددًا لا بأس به، الواحد بالمائة يعنى مليون مواطن، وهو رقم لو تعلمون كبير، بل يتجاوز عدد سكان دول بأكملها. وهو رقم لم يفلح تيار سياسى حقيقى فى الوصول إليه منذ سنوات سبع، هى عمر الثورة المصرية الأهم والأكبر.
الطرف الثانى للمشهد، هو المهندس موسى مصطفى موسى، المرشح الرئاسى المنافس، وهو رجلٌ فدائى بكل معانى الكلمة، لم يتردد فى وضع اسمه وجسده كلوحة نيشان عندما تعلق الأمر بالصورة العامة للدولة التى ينتمى إليها.
ربما لا يعجب البعض هذا القول، وربما يرونه من منظور الانحياز السياسى، لكن ما حدث بالفعل، أن جميع الأحزاب امتنعت عن الدفع باسم مرشح رئاسى، ورفضت جميعًا الدخول فى منافسة مع الرئيس، بل والتفت حوله، بينما تواصلت محاولات التنظيمات الإرهابية لتسول مرشح، ولو بالمخالفة للقانون، أو اللجوء إلى أساليب ملتوية وخائبة، تكون من نتيجتها تشويه المشهد العام، وتصويره لسادتهم فى واشنطن ولندن والدوحة، وكأن هناك إرهابًا للمرشحين، أو تعسفًا فى التعامل مع رغبات الترشح، فكانت الصفقات، والوعود، والقضايا، والمقالات المدفوعة. مرة بإغواء رتبة عسكرية كبيرة، وأخرى صغيرة، ومرة بالالتفاف حول ناشط حقوقى مغمور، والنفخ فى صورته بكل ما أوتوا من قوة، والنتيجة كانت كما يعرفها الجميع، تراجعا، وخيبة، ويأسا.. ولأن وجود انتخابات رئاسية، نزيهة وعادلة، هو المكسب الأكبر لثورة يناير، كان لا بد من وجود مرشحٍ فدائى بكل معانى الكلمة، يحافظ للثورة على مكاسبها، ويمنع أعداءها من الالتفاف حول منجزاتها، ويضمن للأجيال القادمة حقها فى استمرار العملية الانتخابية، ويمنح التيارات السياسية فرصة العمل الحقيقى الوحيد المقبول، مهما كانت النتيجة، ومهما ضعفت حظوظه فى الفوز. هل كانت تختلف حظوظ المهندس موسى مصطفى موسى فى الفوز بالانتخابات الرئاسية ٢٠١٨، عن حظوظ حمدين صباحى، المرشح فى ٢٠١٤؟! الإجابة: «بالتأكيد لا»، خصوصًا مع غياب أعضاء تنظيم الإخوان، الكتلة التصويتية التى كانت الأكثر تنظيمًا، ودوجمائية، والتى كانت هى الكفة الوحيدة القادرة على ترجيح كفة حمدين وقتها، ولكنها لم تفلح، وناصبت مصر العداء، فكان مقرها «الدوحة» وبئس المصير.
هذا عن الأطراف الطبيعية للمشهد الانتخابى، أما عن الأطراف الصناعية، فحدث ولا حرج، عن نشطاء اللجان الإلكترونية، والمدسوسين على المنظمات الحقوقية، فليست كلها شرًا مطلقًا، ومجاريح العمل السياسى فى سنوات حكم مبارك، والطامعين فى ركوب الحركات الثورية بعد ثورة يناير، ومن تجاهلتهم الحركة السياسية بعد يونيو، وغيرهم الكثير والكثير من التيارات، والأفراد، والجماعات، وهؤلاء جميعًا لن تجد لهم أثرًا فى غير فضاء العالم الافتراضى، هم كالتينة الحمقاء التى قرأنا عنها فى سنوات التعليم الابتدائى، والتى حجبت عن الناس عوارفها، حتى لا يبين لها فى غيرها أثرُ. فمارسوا أقصى ما استطاعوا من نضال على مواقع التواصل، ووجهوا ما أمكنهم من سباب، وهجوم، وخطب، ودعوات، وأغلب الظن أنهم سوف يواصلون المسير فى الطريق التى اختاروها، ولن يفهموا حقيقة أنهم أصبحوا كالراقصة على السلم، لا يراهم أحد، «لا من فوق ولا من تحت».. لا ولن.

هى السياسة يا صديقى.. لا مكان فيها لغير النتائج النهائية

■ ما تقييمك للمشهد الانتخابى فى مصر الآن؟!
- هى انتخابات رئاسية طبيعية جدًا، ومكتملة الأركان، ولا تختلف بأى حالٍ من الأحوال، عن مثيلاتها فى دول العالم المتقدم، أو غيرها من تصنيفات الدول المتحضرة، بما فيها من دعايةٍ، بَعضُها ملتزمٌ، وأغلبها مدفوعٌ وفج، وبما فيها من اتهاماتٍ، بعضُها منطقى، وأغلبها مجرد ادعاءات وأكاذيب، وما فيها من مشاحنات، وملاسنات، وتطرف.
■ ألا يلقى هذا بظلال سلبية على مسيرة الانتخابات الرئاسية؟!
- لماذا؟.. انتخابات الرئاسة الأمريكية مازالت تلاحقها احتمالات التزوير لصالح ترامب، وكذلك الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى. ومازالت المظاهرات تخرج فى مدن الولايات المتحدة موجهة السباب، والاتهامات للرئيس، والكتب تصدر، متحدثة عنه كرجل متعجل، وبعضها يصفه بالحماقة والتهور، بل إن الصحف والمجلات العالمية تتحدث عن «خيانة زوجية».. هى السياسة يا صديقى، لا مكان فيها لغير النتائج النهائية، القائمة على أرض الواقع، من حق كل مرشح، أو طرف فى العملية الانتخابية أن يلقى ما لديه من عصيان، ومن حق عصا موسى أن تلتهمهم جميعًا، وتفرض حضورها، وتعلن عن فرحتها بالنصر.
■ ولكن أين المنافس؟
- المنافس على منصات التواصل الاجتماعى، وفى فراغ العالم الافتراضى، تدفعه الحماقة والجهل، إلى التماهى مع العدو فى مخابئ الجبال والدروب فى سيناء، والصحراء الغربية، لأنه لم يجد لنفسه موضع قدم فى الشارع، وبين الناس، ولم يجد لدى جماهير المصريين لنفسه من قبول، فلم يتوقف طوال فترة الماراثون الانتخابى، عن الحشد «كتابةً» على «فيسبوك» و«تويتر»، وتوزيع الاتهامات، والسباب، وصولًا إلى التخوين.

الرئيس فى القصر.. وفى الشارع «تحيا مصر»

الأعمى وحده من لا يستطيع أن يرى الألوان واضحة، صريحة، ومبهجة. لا يراها جميعًا، ولا يميز بينها، ولا يدرك أن الحياة بها ما بها من ألوان متعارضة، ومتداخلة، بل ومتقاتلة فى بعض الأحيان.
والأصم وحده من لا يستطيع أن يسمع أصوات الفرح، ولا يجد الغناءُ طريقًا إلى قلبه، من لا يسمع النحيب، ولا يرق له قلبه، ولا يعرف أنها هى الحياة، بما فيها من أفراحٍ وأتراح، ولحظات موتٍ وميلاد.
والمنبوذ وحده من يرى ويسمع، ولا تعرف مسيرات الألوان، والأصوات، عقلًا له حتى توجه خطابها إليه.
ثلاثة أيام من الحياة الكاملة عاشتها مصر وتأملتها وحصدت نتائجها. ثلاثة أيام من الفرح، ومسيرات الألوان، من العمل والالتزام والشعور بالمسئولية تجاه هذا الوطن، هى أيام لا يملك أمثالى إلا أن يتوقفوا أمامها طويلًا، وتأملها، بحيادٍ وموضوعية، ولا يملك أمثالى إلا أن يسعدوا بها، بما فيها من اختلافات، وسبابٍ، وسخرية، بما فيها من تجاوزات، ودعوات، وحشد من طرفى معادلة الانتخابات الرئاسية التى جرت فصولها على أكمل وجه، وكما عرفناها فى كل دول العالم الحر. فهكذا هى الانتخابات، وهى السياسة، وهى الحياة فى صورتها الأعم.. لا مكان للصوت الواحد، ولا مكان للضعيف، ولا المنسحب.
طبيعى جدًا أن تكون هناك حكومة ومعارضة، وأن يستخدم كلاهما كل ما لديه من أسلحة، وأدوات، شريفة أو غير ذلك، قانونية أو غير قانونية، نزيهة أو قذرة، وطبيعى جدًا أن يسخر كل فريق من منافسه، وأن يحشد من استطاع من مؤيدين.
طبيعى جدًا، ما رأيته طوال الأيام الثلاثة للاستحقاق الرئاسى الثالث لمصر منذ ثورة يناير، بل إن المشهد هذه المرة أكثر اتساقًا مع ما تستحقه دولة بحجم مصر، من حيث الدعاية، والدعاية المضادة، من حيث الحشد من كلا الطرفين، واستخدام الأدوات المتاحة، بما فيها من أدوات لا أوافق عليها، ولا أقبل بها شخصيًا، لكننى أنظر إليها، وأراها، من منظور الحجم والتأثير الذى تملكه الدولة التى أسعدتنى الدنيا بالميلاد فى أرضها، والانتماء إليها، وإلى مواطنيها. ومن منظور ما يحمله الصراع من أهمية قصوى لطرفيه.
من هنا، لم أغضب من سائق التاكسى الذى تحدث عن خلو لجان التصويت، بينما استغرقنى الوقوف فى طابور الاقتراع ما يقرب من الساعة، فهذه طريقته للدعوة إلى المقاطعة، ولم أندهش من مشهد صاحب المقهى وهو يوزع الأموال على فقيرات الحى لحشدهن أمام اللجان، فهذه طريقته للتعبير عن فرحته، ورغبته فى اكتساب الرضا، أو هى الطريقة التى هداه إليها تفكيره، ولكنى لم أمنع نفسى من الغضب من صديقى المثقف، والسياسى المخضرم، وهو ينقل «ترجمة كاذبة» لمقال مجلة بريطانية (الإيكونوميست)، عن الانتخابات الرئاسية، حذفت كل ما قالته المجلة عن إنجازات الرئيس، وأضافت إليها الكثير من العبارات السلبية، والأكاذيب عن المشهد الانتخابى، والاقتصادى المصرى.
من هنا.. تكتسب عبارة «تحيا مصر» مذاقها الخاص، والمميز، وهى تتحول إلى حقيقة متجسدة فى معركة انتخابية حامية، وانتصار لما كان يجب أن يكون، متجسدة فى معركة سياسية مكتملة، بل ومتطرفة فى أساليبها، رغم إدراك أطرافها حقيقة الحرب التى تخوضها مصر، داخليًا وخارجيًا، ضد الإرهاب، وضد المؤامرات التى باتت مكشوفة أمام الجميع، ورغم إدراكها الأزمات التى يمر بها الوطن.
هو عرس انتخابى يرضينى، وهى معركة سياسية بها ما بها من تحفظات، ولها ما لها من إنجازات.. ونتيجتها الحاسمة، بالنسبة لى، أنها ساعات معدودة، ويكون لنا رئيس فى القصر، وأنها ثلاثة أيام رسخت لدى معنى «تحيا مصر».