رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لنشرب الألم حتى الثُّمالة


عانقت سحابات من الجمال، لكننى لم أمطر، ولم أذق نشوة التحليق، إلا حينما امتزجت، واحتفيت، بلحظات الألم.. بل إننى أدركت أن كل متعة حقيقية لا تستطيع الدخول إلينا، إلا إذا أخذت «تأشيرة» معتمدة، من الألم.
لا شىء يؤهلنا لمعرفة وتذوق الجمال مثل ألم تنزف له الروح، وتضطرب معه كيمياء الجسد. ألم يعتصر الكيان ويأبَ إلا أن نشرب حتى الثمالة رشفات المرارة؟.. الألم ليس عضوا غريبا، ينمو فى جسد الحياة إنه «القماشة» المتجددة، التى صنعت نسيج الحياة، فى إتقان مبدع. الألم، إذن، هو قدر البشر.
تكمن مشكلة الإنسان، فى كل زمان ومكان، فى محاولته المستمرة الهروب من نصيبه الطبيعى، من جرعة الألم، مدفوعا بقناعة خاطئة أن الحياة، دون ألم، أجمل.. لكننى أعتقد أن الحياة الخالية، من الألم، حياة لا طعم لها.
وإذا كان الألم هو المادة الخام، أو النسيج الطبيعى، الذى اختارته الحياة لتصنع مأساتها النبيلة، فإن تفادى الألم يعد خيانة عظمى للحياة.
إن الشخص الذى ينتحر، يقول: «ألم الحياة أكثر مما أحتمل».. وأكثر الناس يريدون الحياة، بشروطهم هم، لا بشروط الحياة. يريدون حياة هاجرت من وطن الألم. وهذا مستحيل. مثلهم، كمنْ يريد للطائر التحليق، شرط أن يقص جناحيه.
إن الرغبة فى استبعاد الألم، ليست فقط خيانة للحياة. ولكنها أيضا خيانة لأنفسنا. فقط الألم يكشف عن طاقاتنا الكامنة، وعن قدراتنا المختبئة.. والمفارقة المدهشة أنه كلما ازداد الألم ازدادت عظمة ما نكتشفه.. الألم نار تحرق النفوس الضئيلة، الخاوية. لكنه نور يضىء النفوس الممتلئة، الثرية. إذن الهروب من الألم ضرر جسيم.
تجارب الألم تجعلنا نعيد ترتيب الأشياء، وتجبرنا على إعادة تأمل الحياة، وكيف نعيد الانتماء إليها، والخروج بصياغة جديدة، تقوينا، تسعدنا، وتمنحنا الحكمة.. من تجاربى الخاصة مع الألم، أقول إن كل الأشياء «الجميلة»، تنطوى على قدر ما، من الألم. المنظر الجميل مؤلم. الذكريات الجميلة مؤلمة. الفن الجميل مؤلم. والإنسان الجميل مؤلم. والحب الجميل مؤلم.
علمتنى الحياة ألا أخاف لحظات الألم. علمتنى أن أفتح لها الباب، أحسن استضافتها، أتعطر، وأرتدى لها أجمل أثوابى.. أجالسها وأشرب معها نخب زيارة، لست من الحماقة، أو التطفل، لأردها.. الإنسان القادر على التألم العظيم هو وحده القادر على الإحساس العظيم. هو المثقف الأكبر، والمتحضر الأرقى، القادر على إعطاء الآخرين إضافة حقيقية، من المعرفة، والمحبة، والفرح.
من بستان قصائدى
لا أنام كل ليلة...
إلا بعد تناول الحبة المنومة الزرقاء...
كيف يأتينى النوم الطبيعى...
وأنا أعيش فى عالم غير طبيعى؟.