رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

منسي ومغربي وشبراوي في طابور الصباح




أسعدنى، كما أسعد الملايين، أن نرى أبناءنا فى مدارس مصر، يرددون فى طابور الصباح أنشودة الصاعقة، التى حركت قلوبنا «قالوا إيه علينا قالوا إيه».. أن نسمع هذه الحناجر الفتية تتغنى ببطولة شهيد الصاعقة العقيد أحمد منسى، الأسطورة التى يعرفها الناس من أسوان للمعمورة، والدبابة خالد مغربى، والشهيدين شبراوى وحسنين عرسان، اللذين أقسما ألا يدخل مصر خسيس وجبان.
ما أجمل أن يبدأ أبناؤنا يومهم الدراسى بتحية العلم، والغناء لأبطال مصر وشهدائها الذين بذلوا دماءهم وأرواحهم من أجل أن نحيا جميعا أعزاء كرامًا فى بلدنا، وأن يكون درس الصباح هو حب الوطن وتبجيل أبطاله.
ذكرتنى هذه الصورة بأيام طفولتى عندما كانت صور رموز الوطن تزين جدران الفصول والمدرسة، من جمال عبدالناصر إلى أحمد عرابى وسعد زغلول وطلعت حرب، وقد تعلمنا فى هذه الأيام وحفظنا شعارات مصطفى كامل، وأبيات أمير الشعراء أحمد شوقى وشاعر النيل حافظ إبراهيم فى حب الوطن، وهى دروس لم ننسها إلى اليوم، لأن التعليم فى الصغر كالنقش على الحجر.
لقد شعرت أن هذه اللفتة الجميلة من مدارس مصر، جاءت فى وقتها بعد ما مر بنا من مشاعر مؤلمة فى السنوات الأخيرة، والتى لمست فيها أنا- وغيرى- أن هناك مع شديد الأسف مشكلة فى تراجع الولاء لدى بعض الشباب، ولا أقول كلهم، ولذلك أصبح من السهل بالنسبة لهؤلاء أن يجدوا من يهز إيمانهم ببلدهم، وبقيمتها على مر العصور، وأن ينجح البعض فى أن يشككوهم فيما يقوم به بلدهم وخياراته وقدرته على حسم خياراته المصيرية مهما كانت التحديات، وأن يتأثروا بالسموم التى تبثها وسائل إعلام معادية لمصر أو ببعض تيارات الإسلام السياسى، التى ترفض كل مظاهر الوطنية كتحية العلم والوقوف أثناء النشيد الوطنى وغيرهما.
لقد لخص أحد الشبان الصغار من عائلتى هذه «الأزمة»، عندما سألنى خلال أحداث ٣٠ يونيو: لماذا يثق أبناء جيلك- أو من هم فوق الخمسين- كل هذه الثقة المطلقة بالجيش ويؤيدونه بحب وحماس منقطع النظير أكثر من جيل الشباب؟!.
أردت أن أوضح لهذا الصغير القريب من قلبى أشياء أدركت أنها غائبة عنه، وهذا ليس ذنبه، بل ذنب الذين ألغوا مادة التربية الوطنية من مناهج مدارسنا، وألغوا مادة التربية العسكرية، وجعلوا كتب التاريخ التى تدرس فى مدارسنا مجرد معلومات وأحاديث فارغة، خالية من التركيز على الرموز التاريخية، التى رفعت اسم مصر على مر العصور.
قلت له: يا بنى هناك عشرات الأسباب التى تجعلنى أنا وأبناء جيلى نحب جيش بلادنا، ربما يكون أولها أننى تشرفت بأن أكون مجندا فى بداية حياتى، وخلال ١٥ شهرًا فقط قضيتها كجندى عرفت المعنى الحقيقى لكلمة الانضباط، والضبط والربط، لقد تعلمت فى هذه الفترة الكبيرة أشياء كثيرة أثرت فى شخصيتى ومازالت تؤثر حتى اليوم.. أى بعد أكثر من ٣٥ عاما.. كيف لا أثق فيمن هو مستعد للتضحية بحياته من أجل أن يحيا بلده وأهله، هل عرفت بلدا عزيزا إلا إذا كان لديه جيش قوى يحميه؟.
لقد عاش أبناء جيلى صباهم أيام النكسة، وكانوا يبكون لأنهم يرفضون أن تنكسر مصر، وكنا نغنى فى طابور المدارس أغانينا الوطنية، وأذكر منها أغنية كنا نغنيها فى نهاية الستينيات وكانت تقول «قسما بالله وبالوطن.. وبعزتنا عند المحن.. سنحررها شبرا شبرا.. ونرد لها مجد الزمن».
يا صديقى الصغير.. هذا الجيل، الذى تتحدث عنه، كان يحب مصر رغم الهزيمة التى سموها النكسة، وكان يحلم بيوم الحرب، وكنا نرى الجمعيات الاستهلاكية لا تعرض فى أرففها إلا القليل من البضائع والمواد الغذائية، وكانت اللحوم لا تباع إلا لثلاثة أيام فى الأسبوع، والحصول على دجاجة واحدة كان يتطلب منك الانتظار فى طابور طويل، وكذلك السكر والشاى والصابون، لكن إيمان أبناء جيلى لم ينكسر ولم يهتز للحظة بعظمة بلده، وعندما أعلن البيان الثانى أو الثالث لحرب أكتوبر، كان الناس يبكون فى الشوارع وعلى المقاهى، يبكون فرحا لأن مصر ستتحرر، دون أن يحسب أحد عدد الشهداء الذين سيسقطون، فقد تعلمنا أن الوطن أهم من أى شخص مهما كان عزيزا لدينا.
فى أيام الحرب كنت فى بداية المرحلة الثانوية، وكنا نذهب إلى مدارسنا بالزى العسكرى الخاص بالمدارس، وبالبيادة التى «يستظرف» البعض عليها مع شديد الأسف، وأذكر يوما وأنا فى طريقى للمدرسة أطلقت صافرة الإنذار، فوضعت الكتب على أقرب رصيف، وبدأت أنا وزملائى ننظم المرور كما كانوا يعلموننا فى المدرسة، فنسمح للسيارات بالسير فى يمين الطريق فقط، لأن الجهة اليسرى كانت مخصصة لسيارات الطوارئ كالإسعاف وما شابهها. هذا جيل لم تهزمه المحنة، لأنه تعلم جيدا فى البيت وفى المدرسة، قيمة مصر ورموزها وأبطالها الذين ضحوا بحياتهم من أجلها عن طيب خاطر، وعلينا ألا نحرم أبناءنا من أن يتعلموا هذا الدرس جيدا.
أتمنى أن يستثمر وزير التربية والتعليم الفرصة، فلا يترك المجال لهؤلاء الذين يهتمون بحشو عقول أبنائنا بمناهج لا طائل منها تعتمد على التلقين والحفظ فقط. أرجو أن يعيد مادة التربية الوطنية فورا، ويجعلها مادة أساسية وإلزامية فى كل مراحل الدراسة من الابتدائى إلى الثانوى، وأن يعيد النظر فى محتوى كتب ومناهج مادة التاريخ التى تدرس فى كل المراحل لتركز على أعلام مصر وصناع تاريخها منذ عصر الفراعنة وإلى اليوم.
لا أمل فى جيل لم يترب على حب الوطن، ولا أمل فى وطن لا يحفظ الجميل لشهدائه، ولا يتغنى ببطولاتهم.