رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لغير المولعين بالاختفاء القسرى


فى مشهد وقصة متكررة، جاءت قصة الفتاة زبيدة التى ادُّعى أنها «مختفية قسريًا»، لتلقى بالضوء مرة أخرى على الاتهام الذى تم إطلاقه فى حق الدولة وأجهزتها، منذ ٣٠ يونيو ٢٠١٣م وحتى أيام قليلة مضت.

ما يقارب الخمسة أعوام ظلت تلك التهمة «المشينة»، عالقة بـ«سمعة» الدولة الحقوقية، باعتبار خروجها للنور وتداولها بمنصات الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعى، مباشرة عقب فض اعتصامى رابعة والنهضة. مدة طويلة لا شك فى ذلك؛ بالنظر إلى أن اكتشاف زيف هذا المصطلح، وسبر أغوار استخدامه كـ«سلاح قذر» ضد ما جرى فى يونيو، لم يستغرق شهورًا معدودة.

فى حال الإيمان بأن خمسة أعوام هى زمن طويل، وأن أسلحة الهجوم يلزمها أولًا مضادات للحماية، قبل مناقشة جدارة وأمانة ساحة الصراع. سيكون أولًا علينا قياس وميزان من تأثر بهذا الأمر؛ فهم الغالبية العظمى من المنظمات الحقوقية الدولية والمحلية. ومنهم عبر تقاريرهم سيتمدد الأثر ليشمل قطاعًا لا يستهان به من الرأى العام العالمى، حيث تجد مثل تلك التقارير مساحات اهتمام فى النشر الصحفى والإعلامى المرئى، إضافة إلى سهولة وإثارة نشرها الإلكترونى «وسائل التواصل الاجتماعى». وفيما يخص الرأى العام المحلى؛ تتقلص نسبة التأثر كثيرًا عن نظيره العالمى، حيث يكتفى الأخير بسطور موجزة، كى يشكل انطباعه الذى ينقلب ليقين تلقائيًا مع التكرار. الاعتماد على إدراك الرأى العام المحلى لقدر أكبر من تفصيلات الحقيقة، باعتباره سيتحكم فى نسبة من سيسقط فى فخ الترويج الكاذب، هو صحيح لكنه يشوبه مخاطر أخرى، لها علاقة برصد نسب التحول أو التشكك فى اليقين. ولهذا أسباب يطول شرحها، لكن آلية واحدة من الممكن أن تصل بنا لتقريب الصورة، فمن ذخيرة «السلاح القذر» التكرار والإلحاح المتنوع للمصطلح أو الحالة، وهذا سريعًا ما يجذب المتأرجحين. وهم ليسوا المستهدفين وحدهم، فهناك من سيتحولون بملء قناعاتهم، فى حال داهمتهم منصات مروجة ذات وزن ثقيل، وآخرون سيبنونها على صمت الدولة الرسمى عن الرد أو الفعل أو كليهما معًا.
من السهل الاكتفاء بعدم استكمال القراءة، فى حال النظر باستخفاف أو استهانة، لتلك المقاييس والأوزان المشار إليها. حينها يكون دفعهم للذهاب إلى الجحيم، أيسر وأسرع من أجل ضمانة المضى قدمًا، رغم اليقين بأننا إزاء أسلحة قادرة على إحداث الإصابة، وهذا المضى غير آمن بالمطلق، فى حال التفاقم أو الوصول لمرحلة تحميل الخسائر المجانية.

من استكمل معى أفترض أنه يسوءه التلويح بالملف الحقوقى المصرى، فى غالبية اللقاءات الدولية مع مسئولين مصريين. وأظنه أيضًا قد بدأ يشعر بأرق إيمان شريحة ظاهرة ـ من غير الإخوان ـ بصحة تلك الافتراءات، رغم توالى انكشاف زيفها مؤخرًا. وفى هذا ما قد يلزمنا ابتداء؛ هو الاقتناع بأن المشهد على هذا النحو لا ينتج سوى الخسائر، واليقين بأن هذا المربع الضيق ليس قدرًا مقضيًا، بل تعد هزيمته وتحطيم أذرعته فرض عين عاجلًا وعاقلًا.
العجلة باعتبار درجة خطورة «الأسلحة القذرة»، فقنبلة محدودة من «الجمرة الخبيثة» قادرة على صناعة مساحة واسعة من التهديد. ويكفى ما تعرضت له مصر خلال سنوات مضت، فلم تكن جريمة «مقتل ريجينى» الإيطالى، وإسقاط «الطائرة المدنية» الروسية فوق سيناء، ببعيدين عن استخدام تلك الأسلحة وفى ذات الساحة من الصراع الضارى. لذلك سيظل هناك من يرحب بإلصاق تهمة الانتهاكات الحقوقية بسمعة الدولة المصرية، بل سيحرص على أن يكون داعمًا لها، رغم كونه من غير الإخوان صانعى ومروجى الفرية.
والتعقل قرين الذكاء بالبداهة؛ لذلك تجهيز واستخدام الأسلحة اللائقة والقادرة على هزيمة الخصم، تظل خطوة أولية، تستبعد من خلالها ذخيرة الصراخ والنفى الغاضب والإشارات المتكررة لخيوط التآمر، كى يتم استبدالها بذخائر من العيار الذى يستطيع قتل الخصوم، ولها القدرة على تفكيك الألغام بدأب وصمت وصبر، قبل أن يحولها إلى مكونات «خردة» لا يمكنها إيذاء بعوضة. وهذا يلزمه خطوة تالية، تتمثل فى درجة تنسيق عاليه ما بين العديد من الجهات التى لها تماس مع الملف، وزارة الداخلية والنيابة العامة والمجلس القومى لحقوق الإنسان ووزارة الخارجية، قبل الهيئة العامة للاستعلامات. حيث تظل الأخيرة ناقلة لـ«وقائع» و»إجراءات» تم اعتمادها فى الواقع، وأنتجت على الأرض مخرجات بالأسماء والأرقام. وهذا يلزمه قدر من الشفافية والتداول المعلوماتى، يحصن النتائج ويصيب الأهداف فى مقتل لا يسمح لها بالحياة.
حققت وزارة الداخلية نجاحًا سابقًا فى ملف «الاختفاء القسرى»، منذ عامين تقريبًا بمشاركتها «المجلس القومى لحقوق الإنسان» فى الفحص والرد، على مزاعم كانت حينها يشوبها غموض كثيف. قبل تكشف الكثير من حقائق انضمام العشرات ممن كانوا على قوائم «الزيف»، لصفوف التنظيمات الإرهابية داخل مصر وخارجها. لكن ظلت تلك المحطة ـ رغم الجهد الذى بذل فيها ـ قاصرة على دوائر محدودة، لم تحظ حينها بما يلزم من إعلان وترويج محترف، كى تصل للمستهدف بها. وفقدت سريعًا إمكانية تطويرها والبناء عليها، خاصة أنها اقتصرت على الجانب المحلى من الرأى العام، ولم تتمكن من إيصال رسالة إيمان الدولة الحقيقى، بهذا النهج الحقوقى المقدر.
ولذلك يمكن فى إجراء مماثل؛ أن تعلن وزارة الداخلية رسميًا منفردة أو بمشاركة «المجلس القومى لحقوق الإنسان»، أن هناك مكانًا مجهزًا لاستقبال كافة إخطارات الاختفاء من «ذوى الشأن» لمن يدعى بوقوعه، وأنه سيتم العمل على إعداد ردود شافية عن كل ما يردها بهذا الخصوص، شريطة تحديث آلية العمل والإعلان عنها، بشفافية تعكس جدية الاضطلاع بتلك المهمة. هذا عنوان واحد لمقترح أولى، كما لدينا آخرون يمتلكون مهارة العمل على تلك الملفات، فى الداخل والخارج، جاهزون لتقديم المشورة والعون لوطنهم، فى حال صدقت إرادة المجابهة مع اليقين بأهمية الأمر للداخل والخارج، نصل ـ بعون الله ـ لحصاد حقيقى خلال شهور.