رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سهير القلماوى.. مسيرة علمية متميزة


د. سهير القلماوى اسم ذو رنين، وأتذكر أنه فى منتصف الستينيات – وكنت مازلت طالبًا بالمرحلة الثانوية – كانت د. سهير القلماوى تحضر إلى قصر ثقافة الإسكندرية (حاليًا مركز الإبداع) فى ندوة ثقافية، فكان والدى يصطحبنى معه وهو يقول لى: «تعال معى لتستمع وتشاهد ابنة وتلميذة د. طه حسين»، فكانت فرصة نادرة لى أن أستمع وأشاهد د. سهير القلماوى.
وُلدت سهير القلماوى فى ٢٠ يوليو ١٩١١ لأب كردى كان يعمل طبيبًا جراحًا، رجل مستنير، مثقف واعٍ فى مدينة طنطا وأم من أصول شركسية. حين رُزقت الأسرة بالبنت أطلقوا عليها اسم «سهير» وسمحوا لها فقط بتعلم الرسم وعزف الموسيقى وفق تقاليد زمانها، واستجابت الأم بعد فترة لضغوط الأب، فقد أصر على دخولها كلية البنات الأمريكية ليس من أجل الحصول على شهادة دراسية بقدر ما تتأهل لتصبح «سيدة منزل ممتازة». حصلت على البكالوريا من مدرسة «كلية البنات الأمريكية». تمنت الفتاة أن تطبق المثل العربى القائل «كل فتاة بأبيها معجبة» وتصبح مثله طبيبة وتقدمت إلى كلية العلوم وظلت بها مدة عام دراسى يؤهلها لدخول كلية الطب ولكن العميد رفض قبولها بدعوى أن شهادة البكالوريا الخاصة بها ليست مصرية، لكن الحقيقة بسبب أنها فتاة!!، وكانت الصدمة!!، ولكن الله أرسل لها من مد لها يد العون، معلمها الأول د. طه حسين أوجد لمأزقها مخرجًا، فقسم اللغة العربية يسمح بدخول حاملى البكالوريا المصرية أو ما يعادلها. وفى عام ١٩٢٩ كانت أول فتاة تلتحق بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليًا)، حيث التحقت بكلية الآداب التى كان عميدها د. طه حسين، ودخلت الفتاة قسم اللغة العربية التى لا تجيدها مثلما تجيد الفرنسية والإنجليزية وهى كارهة، ووجدتها الأم فرصة سانحة لتعيدها إلى مكانها بالمنزل، لكن الأب المستنير وقف فى صف ابنته، وخفف عنها الصعاب وعضد من مركزها فاستقدم لها معلمًا يُدرّس لها القرآن الكريم وآخر لتعليم الخط العربى وثالثًا يشرح لها ما غمض عليها فى ديوان العربية ووجدت الفتاة مكتبتها الصغيرة مليئة بأمهات الكتب ومؤلفات عباس العقاد وطه حسين وأحمد لطفى السيد.
كانت الفتاة الوحيدة بين ١٤ زميلًا من الشباب فى قسم اللغة العربية بكلية الآداب وكانت تتفوق عليهم. كانت سهير القلماوى ضمن المجموعة الأولى من فتيات تمسكن بالعلم هن: فاطمة فهمى وفاطمة سالم ونعيمة الأيوبى وزهيرة عبدالعزيز، وفى نفس العام تم قيد أربع أخريات فصار العدد تسع طالبات. وحصلت سهير القلماوى على درجة الليسانس وجاء ترتيبها فى المركز الأول وتم تعيينها معيدة بالجامعة، وجاءت الرياح بما لا تشتهى السفن، فتوفى الأب الدرع الواقية للفتاة التى لقيت معارضة جديدة من الأم بسبب اختيارها شغل الوظيفة. وبمنتهى الهدوء أكدت سهير القلماوى لأمها أنها لن تهمل أمرًا من أمور المنزل وحصلت على درجة الليسانس عام ١٩٣٧ وموضوعها عن «أدب الخوارج» وسافرت بعدها فى بعثة لفرنسا للتحضير لرسالة الدكتوراه عن «ألف ليلة وليلة» مع دراسة نقدية، وبالفعل حصلت على الدكتوراه عام ١٩٤١ فى أول رسالة علمية تناولت القصة من خلال دراستها وتقديمها من حكايات شعبية إلى عمل أدبى مهم فكانت ميلادًا جديدًا لها ولتصبح أول فتاة مصرية تحصل عليها وصاحبة الرقم ٣ فى ترتيب الحاصلين عليها وكانت قد نجحت فى انتخابات اتحاد الكلية.
بدأت سهير القلماوى تكتب المقالات فى الصحف والمجلات وتلقى الأحاديث على أثير الراديو، واختيرت سكرتيرة تحرير مجلة الجامعة المصرية التى ترأسها طه حسين، وكتبت القصة والشعر، وتواصلت مع مجلات الرسالة والثقافة وأبوللو وكوكب الشرق التى كانت تقدم عبر صفحاتها صفحة عن المرأة ولم تتلقَ أى أجر عن عملها. وبعدها تزوجت من الدكتور يحيى الخشاب.
تولت منصب أستاذ الأدب العربى الحديث بكلية الآداب عام ١٩٥٦، ثم منصب رئيس قسم اللغة العربية (١٩٥٨- ١٩٦٧)، كما تولت الإشراف على «دار الكتاب العربى»، ثم الإشراف على مؤسسة التأليف والنشر فى الفترة (١٩٦٧-١٩٧١). كانت أول من أقام معرضًا دوليًا للكتاب بالقاهرة عام ١٩٦٩ وبه جناح خاص بالأطفال وهو ما استمر بعد ذلك ليصبح فيما بعد المعرض السنوى لكتب الطفل، وشاركت فى عضوية مجلس اتحاد الكُتّاب، واختيرت عضوًا بالمجالس القومية المتخصصة. مثلت مصر فى العديد من المؤتمرات العالمية. نالت العديد من الأوسمة منها: جائزة مجمع اللغة العربية (١٩٤١)، جائزة الدولة التقديرية (١٩٧٧). كانت أول رئيس لمؤتمر الفنون الشعبية (١٩٦٧)، ورئاسة الهيئة المصرية العامة للكتاب (١٩٦٧)، ورئاسة اللجنة العليا للرقابة على المصنفات الفنية (١٩٨٢). من أشهر من تخرجوا على يديها: د. جابر عصفور، د. عبدالمنعم تليمة، الشاعر صلاح عبدالصبور، والأديب فاروق خورشيد. كانت عضوًا بمجلس الأمة (١٩٥٩)، والاتحاد الاشتراكى العربى (١٩٦٣)، وعضوًا بمجلس الشورى (١٩٧٩) عن دائرة حلوان. اهتمت بقضايا المرأة فقامت بتأسيس جمعية خريجات الجامعة عام ١٩٥٣. وبعد حياة حافلة بالعطاء والجهد والتضحية والإيثار رحلت فى ٤ مايو ١٩٩٧ بعد أن ضربت أروع أمثلة النجاح، حاملة فى يدها مشاعل نور الثقافة فى محاولة جادة للقضاء على الجهل.