رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التاريخ والفلكلور.. تاريخ الناس «1-2»




حتى وقتٍ قريب كانت العلاقة بين العلوم الإنسانية شبه مقطوعة، وتقف بين التخصصات المختلفة حدودٌ فاصلة أشد قسوة وقطيعة من الحدود السياسية بين الدول، لكن تغيرت هذه الحالة فى الآونة الأخيرة نتيجة سيادة نزعة تعددية وتداخل العلوم الإنسانية. وتبين الدارسون المعاصرون صعوبة الفصل بين مجالات العلوم الإنسانية فصلًا تامًا، طالما أنها تتعامل أساسًا مع الظاهرة الإنسانية بأبعادها المختلفة.
ولم يعد يُنظر إلى التاريخ على أنه سير الملوك وقصص الأولين، أو أن «البطل» هو صانع التاريخ، أو حتى أن التاريخ ما هو إلا «حوليات» لتسجيل الوقائع. وساعد على إحداث ثورة هائلة فى علم التاريخ إدخال المفهوم الاجتماعى لعلم التاريخ، فلم يعد التاريخ منحصرًا فى ميدان التاريخ السياسى أو حتى التاريخ الدينى، وأصبح الإنسان ونشاطه هو محور دراسة علم التاريخ. وعليه لم تعد «الوثيقة» أو «الحولية» وغيرهما من المصادر الرسمية أساس كتابة التاريخ، إذ أصبح همّ المؤرخ البحث عن «مصادر شعبية» أو «غير تقليدية» للتعبير عن حركة المجتمع، من أجل فهمٍ أدق لحركة التاريخ. من هنا أصبح الفلكلور من أهم المصادر التى يعتمد عليها المؤرخ الحديث فى دراسة المجتمعات الإنسانية.
ولغويًا «الفلكلور» هو حكمة الشعوب، والمقصود به التراث الروحى للشعب وخاصةً التراث الشفاهى مثل المعتقدات والأساطير والعادات التقليدية الشائعة بين عامة الناس، وآداب السلوك والعادات وما يراعيه الناس، والأغانى الشعبية والأمثال وغيرها. من هنا تنبه المؤرخون إلى حقيقةٍ مهمة فى سعيهم نحو كتابة تاريخ مَن لم يكتبوا تاريخًا أو لم يهتم بهم كُتَّاب التاريخ كثيرًا، وهى أهمية الفلكلور كمصدرٍ أساسى لهذه المجتمعات أو حتى الفئات المهمشة.
وقد ترتب على ذلك تغيراتٍ هامة وحادة فى الأساليب التقليدية التى يتبعها المؤرخ فى جمع المادة العلمية ونقدها؛ إذ أصبح ضروريًا للمؤرخ أن يتبع أسلوب «العمل الميدانى» المتبع عند علماء الفلكلور والأنثروبولوجيا فى تسجيل مادته التى يعتمد عليها فى دراسته، كالمقابلات المباشرة، واستخدام أجهزة التسجيل وما إلى ذلك.
وربما أدى هذا التلاقح بين علوم التاريخ والفلكلور والأنثروبولوجيا إلى إحراز نجاحاتٍ جديدة فى ميدان الدراسات التاريخية، لكنه أثار العديد من المشاكل المنهجية حول المادة الفلكلورية التى يجمعها المؤرخ وكيفية الاستفادة منها، وأيضًا العودة إلى السؤال التقليدى للمؤرخ حول مدى مصداقية «المادة الخام» التى يعتمد عليها.
وفى كتابه «المأثورات الشفاهية» يحاول «فانسينا» أن يجد الحل لهذه الإشكالية، فقد كان باعتباره مؤرخًا متمرنًا وأنثروبولوجيًا مدربًا، مهتمًا أيضًا بالفلكلور نظرية ومنهجًا، كما كان واعيًا تمامًا بأهمية أن يمتلك أيضًا مهارات الفلكلورى وخبراته. ومن هنا يأتى دفاعه بشدة عن أن المؤرخ يمكن أن يوظف المصادر الشفاهية لتحقيق أهدافه باعتبارها موثوقًا بها تمامًا مثل المصادر المكتوبة، بالإضافة إلى أنه يمكنه تمحيصها بدرجةٍ كبيرة من الدقة، وبنفس المعايير التى يمكن تطبيقها فى التعامل مع النصوص المكتوبة.
كما أدى التداخل بين التاريخ والفلكلور إلى طرح السؤال التقليدى الذى طالما شغل المؤرخ «متى يبدأ التاريخ؟»، وكانت الإجابة التقليدية السهلة هى: يبدأ التاريخ عندما يبدأ الإنسان فى «التأريخ»، أى كتابة تاريخه، مما أدى إلى تقديس «المكتوب» مهما كان صورة هذا المكتوب ومضمونه. وأدى ذلك إلى صك عدد من المسلمات والتعبيرات الجاهزة مثل «التاريخ يبدأ عندما يبدأ الناس الكتابة» أو «التاريخ هو المصادر المكتوبة». مع أن هذه المادة المكتوبة كانت فى الأصل ركامًا من التراث الشفاهى لتاريخ ومعتقدات أمة، ثم بدأ فى كتابتها على مراحل مختلفة. فلماذا نسم الشفاهية بعدم العلمية وعدم التاريخية، بينما نسبغ صفات العلمية والتاريخية على المصادر المكتوبة بينما أصلها شفاهى؟!.
وفى محاولةٍ لبيان أهمية الفلكلور كمادة تاريخية، رأى البعض «أن المؤرخ الذى يستخدم المأثورات الشفاهية، ليس فى وضعٍ يختلف كثيرًا عن وضع المؤرخ الذى يستعين بأخبار العصور الوسطى أو الأخبار المتناقلة من خلال جمهور أجيال من الناسخين تتفاوت مستويات ثقافتهم وتخصصاتهم وأمانتهم العلمية»، مشيرًا هنا إلى أن الحوليات والمدونات التاريخية قد تعرضت هى الأخرى إلى عمليات تغيير وحذف وإضافة على مر العصور، تركت تأثيرها الملحوظ حول «مصداقية» المادة التاريخية، ودفعت المؤرخين إلى إجراء عملية «تحقيق النصوص» من خلال إجراء عمليات مقارنة وبحث بين النسخ المختلفة للنص التاريخى الواحد، وصولًا إلى النسخة الأصلية، أو أقرب النسخ مصداقية إلى النسخة الأصلية التى لم يتم العثور عليها، مما يوضح أن الأساس هنا ليس فى طبيعة المادة التاريخية، وإنما فى قدرات المؤرخ ومناهجه فى التعامل مع هذه المادة أيًا كانت طبيعة هذه المادة.
وعلى هذا لا نستطيع أن نعيب على المؤرخ الذى يعتمد على المأثورات الشفاهية، فهو وبالاستعانة بمناهج التاريخ والأنثروبولوجيا والفلكلور قادر على تحقيق الاستفادة المرجوة من هذه المصادر مهما وصفها البعض بالأسطورة أو التحريف أو عدم «الرسمية».
وسنحاول فى المقال القادم تطبيق ذلك على تاريخ مصر.