رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى آخر يوم.. رسالة للعالم من الكنيسة والأزهر


الليلة نُودع عامًا لنبدأ أولى صفحات العام الجديد ٢٠١٨.. فكل سنة وأنتم ومصرنا الحبيبة بألف ألف خير واستقرار وسلام.. نودع عامًا كانت أحداثه ساخنة ومتلاحقة.. ونبدأ غدًا أول صفحة من العام الجديد مصحوبة بالتفاؤل والأمل.. ومع كل ما مر بِنَا ومع ما هو فى طيات المجهول.. فإن هناك مشهدًا مُهمًا يبعث على التفاؤل قد استوقفنى لدى رؤيته نظرًا للمعانى التى نستخرجها منه.. والتى تثلج الصدر وتجعلنى أتطلع إلى تحقيق بعض الأمور التى أعتقد أنها تُحسن الأحوال فى العام المقبل إن شاء الله.. إن هذا المشهد له مغزى عميق وواضح فى نفس الوقت رغم كل الأخطار المحيطة بالوطن.. كما أنه مغزى لن يفهمه أو يعيه إلا من يحبون الوطن ويأملون فى استقراره وأمنه وسلامته.
إنه ببساطة شديدة مشهد يعكس نسيج الوطن بكل تاريخه العريق وأبعاده اللا محدودة التى لا يفهمها من يحيكون خططهم المستمرة ويدبرون المؤامرات الواحدة تلو الأخرى وينفقون الأموال ببذخ، لإضعاف هذا النسيج، وزعزعة استقرار الوطن.. إنه مشهد رائع جمع بين البابا تواضروس، بابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية، والدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، وهما يتصافحان بالأيدى أثناء استقبال البابا لشيخ الأزهر لتهنئته بالأعياد.. وبصحبته وفد من قيادات وعلماء الأزهر والأوقاف ودار الإفتاء.. إن هذا اللقاء ليس مجرد تحية تجمع بين القيادتين للدين الإسلامى والدين المسيحى، وليست مجرد تهنئة رسمية بينهما، إنما هى رسالة واضحة للعالم من قلب قاهرة المعز بأن مصر هى مسلم ومسيحى أو مسيحى ومسلم.

هى رسالة كاشفة لأحوال مصر فى الأعياد، تبرز إخوة ومصيرًا مشتركًا يجمع بين المسلم والمسيحى وبإرادة جماعية، وإنه مهما بلغت صعوبة المرحلة الحالية وخطط إشعال الفتنة فإن الأعياد هى فرصة سانحة لإظهار أواصر المحبة والإخوة المتبادلة للعالم بين الناس الطيبين فى مصر.. ورغم تقديم مذكرة لإحدى المنظمات من ٦ نواب فى الكونجرس الأمريكى إلى البرلمان المصرى تشير إلى انتهاكات ضد مسيحيى مصر ومعاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية.. فإن مسيحيى مصر ردوا عليها عمليًا بأن تبرع بعض المواطنين المسيحيين ببناء جامع فى إحدى قرى الصعيد.

كما جاء رد البابا تواضروس قويًا واضحًا لا التباس فيه، فهذا الحكيم العاشق لمصر ولسلام مصر - وفى رسالة واضحة للعالم إلى الذين يتهمون المسيحيين بالاستقواء بالخارج - قال جملة واحدة مبهرة لا تخرج إلا من حكيم شديد الذكاء: «نحن لا نستقوى إلا باثنين.. الله وإخواننا المسلمين فى مصر»، مؤكدًا أن الروابط التى تجمع بين الأزهر والكنيسة قوية ومترابطة على مر العصور.. وأن أى محاولة للعبث بنسيج الوحدة الوطنية محكوم عليها بالفشل.. أضف إلى هذا مطالبات سابقة للدكتور محمد مختار جمعة - وزير الأوقاف - لجميع المواطنين بضرورة التصدى للجماعات الإرهابية وكشف العملاء باعتباره واجبًا وطنيًا وشرعيًا.
كما أصدر د. شوقى علام، مفتى الجمهورية، نحو نصف مليون فتوى من دار الإفتاء ضد التطرف، بالإضافة إلى الإعلان عن بدء تطوير مناهج الأزهر مما يعكس رغبة من رجال الدين المعتدلين فى نبذ التطرف والاتجاه إلى الاعتدال والوسطية ومفاهيم المحبة والتآخى التاريخية بين أهل مصر.
لكن من ناحية أخرى، لا يزال الطريق شاقًا وفى حاجة إلى جهود أكبر لمواجهة التطرف والعنف والتشدد فى بلدنا والتقدم به إلى طريق التنوير.. فإن كان هذا اللقاء يمثل رسالة واضحة للعالم بأن الكنيسة والأزهر معًا فى مصير مشترك واحد لبلدنا، فإنه أيضًا رسالة فى حاجة إلى استكمالها عمليًا بالتصدى لكل محاولات نشر التطرف من خلال المدارس والجامعات، واستغلال مشاكل المناطق العشوائية، واستغلال غلاء الأسعار لبث الحقد والكراهية فى النفوس ضد الدولة، وضد كل مشروعات تنجز لمصلحة المواطنين، وضد كل محاولات إصلاح الفساد وإصلاح أحوال الاستثمار والسياحة.
ولا بُد من ناحية أخرى من خطط عاجلة لنشر قيم التنوير، والعمل على نشر الفنون والثقافة وتطوير التعليم، وكذلك الإعلام الذى يجتذب الشباب ويرفع درجة وعيهم، ويقدم لهم ما يجعلهم يفهمون الأحداث، ويغرس فيهم قيم الانتماء والاعتدال والحوار، بدلًا من بث الكراهية والتدمير والتشويه.
إن هناك جماعات من المتشددين يسيئون استخدام مواقع التواصل الاجتماعى، ويبثون الأخبار الكاذبة حول الدين الإسلامى والدين المسيحى، لتأجيج الفتنة كلما هدأت الأحوال وكلما حدث تقدم فى إنجاز مشروعات كبيرة فى بلدنا.. وهناك كتائب من المتخصصين فى ترويع المواطنين من الدعاة المتشددين، ومحامين موالين لهم مهمتهم رفع دعاوى على كل من يبدى رأيًا مخالفًا أو مناقشًا للدين أو للتشدد الذى ينشرونه، وذلك بالطبع بهدف تكميم الأفواه، وفرض هيمنة دينية على المواطنين، مثلما حدث من قبل فى قضايا شهيرة نعرفها، ومثلما حدث مؤخرًا، حيث تم شن حملة شعواء على الممثلة شيرين رضا، بتهمة ازدراء الأديان، باعتبارها قد هاجمت الأذان فى أحد حواراتها التليفزيونية الأخيرة.. وتم رفع دعوى قضائية ضدها لدى النائب العام.. ولقد استمعت إلى حوار شيرين المسجل مع المذيعة، والحقيقة أن شيرين لم تهاجم الأذان، وإنما هى تنتقد الأصوات السيئة والعالية، وتطالب بتوحيد الأذان من خلال أصوات جيدة، ومراعاة المرضى والأطفال والسائحين.. قالت شيرين كلامًا مرسلًا وعفويًا ولم يكن مقصودًا به ما تم اتهامها به، وإنما هم يريدون أن تتحول شيرين إلى كبش فداء وأداة لتكميم الأفواه مرة أخرى.
فهل ستُترك شيرين بمفردها فى مواجهة حملة ممنهجة وخانقة للحريات فى بلد نريده أن يكون داعمًا لحرية التعبير.. وفى دولة دستورها يكفل حرية التعبير؟.. إن قضيه اتهام شيرين بازدراء الأديان هى قضية مفتعلة، وبها مغالطات وتستحق وقفة من الفنانين والمثقفين والدولة معها.. وأنا أتساءل هنا: لماذا ليس لدينا مكاتب لمحامين وطنيين يتولون رفع قضايا على المتشددين الذين يعلنون فتاوى متشددة تدعو للتطرف والعنف والقتل وتحقير المرأة وزواج الصغيرات، وتُحرم الفن والسينما والموسيقى وتسب كل المشاهير والكتاب والمسئولين بمنتهى الحرية؟.. أم أن الحرية فى بلدنا لناس وناس؟.

وأتساءل أيضًا: لماذا لم يتم إلغاء مادة الحبس بتهمة ازدراء الأديان من الدستور.. والتى تجعلها عقوبة فى دستورنا الحالى؟.. إننا نُنهى اليوم عامًا ونتطلع لعام نأمل أن يُمجد فيه السلام والمحبة والتآخى والفنون والثقافة.. ونتصدى بكل القوة للعنف والتطرف والجهل والتشدد.