رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عهد الطفولة: اخرجوا من فلسطين




«عهد التميمى، طفلة فلسطينية، ١٦ سنة، نحيفة، هزيلة، كعود ثقاب، لكن تحديقها الباسل فى أعين جنود الاحتلال الإسرائيلى، وقبضتها المرفوعة تهزأ بالبنادق والموت، والنار التى بعينيها، والكبرياء التى يدور بها رأسها فى سماء بلادها، وصيحتها وهى مسكونة بوطنها: «اخرجوا من فلسطين»، كل ذلك أشعل الضمائر وحرك الأمل فتردد اسمها يجوب العالم، طيرًا لا يستقر.
من قبل قال لهم محمود درويش: «اخرجوا من أرضنا.. من برنا.. من بحرنا.. من قمحنا.. من ملحنا.. من جرحنا.. من كل شىء، واخرجوا، من مفردات الذاكرة، أيها المارون بين الكلمات العابرة».
وقد اعتقلت سلطات الاحتلال الطفلة الصغيرة، وقيدت يديها، وعصبت عينيها وهى تقودها إلى السجن تمهيدًا لمحاكمتها أمام محكمة عسكرية، لأنها تصدت لجنود الاحتلال الذين اقتحموا منزلها مع والديها وطردتهم بعنف. وقد أثارت القضية الرأى العام ومواقع التواصل الاجتماعى، حتى إن بعض المحامين العرب عرضوا أن يدافعوا عن عهد أثناء المحاكمة. وليس ما جرى لعهد مؤخرًا إلا محطة من رحلة كفاح الصغيرة التى بدأتها فى الرابعة من عمرها، حين شاركت مع والديها فى المسيرات رفضًا لسياسات الاحتلال، ثم برزت على الساحة الإعلامية وعمرها أحد عشر عامًا بتحديها جنود الاحتلال حينما اعتدوا على والدتها ناريمان، منذ خمس سنوات، وتعرضت خلال ذلك للإصابة بالرصاص المطاطى ثلاث مرات، وكسرت يدها، لكنها لم تتوقف عن صيحتها: «اخرجوا من فلسطين»، ولا كف رأسها عن الالتفات بكبرياء ليملأ بالأمل سماء بلادها.
و«عهد» ابنة الغضب الذى راكمته النازية الصهيونية فى علاقتها بالأطفال الفلسطينيين، حينما كانت ــ ومازالت ــ تقيم لهم الحواجز فى الطريق إلى مدارسهم، وتهدم تلك المدارس، حتى إن الصحف الأوروبية ذكرت أن الاحتلال هدم فى ٢٦ أغسطس ٢٠١٧ مدرسة وستة مبانٍ تابعة لها شيدت بتمويل من الاتحاد الأوروبى.
وأعرب الاتحاد الأوروبى، فى بيان، عن قلقه الشديد من ممارسات الاحتلال تجاه المنشآت التعليمية. وتلجأ النازية الإسرائيلية لما هو أشد، أى الاعتقال، ومن بين اثنى عشر ألف طفل كانوا معتقلين، ما زال فى السجون ٤٨٠ طفلًا، وتعرض أكثر من تسعين بالمائة منهم للتعذيب وانتزاع الاعترافات بالإكراه، وتهمتهم: إلقاء الحجارة على قوات الاحتلال.
وتمضى النازية من هدم المدارس إلى الاعتقال حتى القتل، وشكلت سياسة قتل وقنص الأطفال وسجنهم سياسة ثابتة، وما زالت صورة الطفل محمد الدرة حاضرة، وصورة الطفل محمد أبوخضير الذى قتلوه وأحرقوه حيًا، علمًا بأن عدد الأطفال الفلسطينيين يقدر بأكثر من مليونى طفل كلهم عرضة إما لتوقيفهم على الحواجز، أو هدم بيوتهم، أو مدارسهم، أو حبسهم، أو قنصهم، أو قتلهم. وبالرغم من ذلك فإن المقاومة لا تتوقف إلى درجة اضطرت الاحتلال لسن قانون لم يسن مثله من قبل يسمح لإسرائيل بسجن الأطفال ممن هم دون سن الرابعة عشرة! أى بسجن من هم فى السابعة والثامنة من أعمارهم! وقد صادق الكنيست على ذلك القانون فى ٣١ مارس ٢٠١٦ من القراءة الأولى! وبموجبه يتم احتجاز الطفل فى مركز مغلق إلى أن يبلغ سن ١٤ عامًا! وبالرغم من كل ذلك تدوى صيحة «عهد»: اخرجوا من فلسطين، وترج بها أفئدة الاحتلال، وتنشر الأمل، وتشعل الضمائر بالنار التى فى قلبها.
قالت جولدا مائير ذات يوم: «إن الكبار سيموتون، وإن الصغار سيكبرون وينسون، وتنتهى القضية». لكن الصغار لم ينسوا، وهم يبعثون إليك بكلمتهم من قلب طفلة فلسطينية شجاعة وجميلة: «اخرجوا من فلسطين». وسوف تخرج جيوش ودولة الاحتلال التى لا يزيد عمرها على سبعين عامًا، فلقد قامت فرنسا باحتلال الجزائر لأكثر من مائة وثلاثين عامًا وأجبرت على الرحيل، واستقلت الهند عن بريطانيا عام ١٩٤٧ بعد كفاح لأكثر من أربعمائة عام، وأجبرت بريطانيا على الرحيل. لا يعرف تاريخ البشرية استعمارًا هزم شعبًا، ولن تتمكن القاعدة العسكرية الأمريكية المسماة إسرائيل من هزيمة الشعب الفلسطينى، وسوف تتحطم معداتها ودباباتها وأوهامها، مهما استجلبوا لها المرتزقة من شتى أنحاء العالم، ومهما حشوها بالمال والسلاح والأكاذيب والإجرام. سيبقى وجه «عهد» يملأ السماء، وتزول ما عداه من سحب عابرة.