رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لقد أصبحنا فريسة


فى تلك الأيام الكاحلة التى لا يتقبل بعضهم فيها الرأى إلا إذا كان صادرًا من إخوانى أو سلفى، رأيت أن أرتدى عمامة السلفيين وأظهر على الناس بلحية الإخوان، وأقف على منبر الشيخ حسان أو يعقوب، أو برهامى، ثم أرفع صوتى بالدعاء على الذين يحاربون الإسلام، ويبتغون الشر بمصر، وكان يجب أن أضع لنفسى صورة تخيلية وأنا واقف فى هذا الموقف.

ومن تيسير الله لى أن مسألة التخيل هذه ليست من الأمور العويصة، فقد كنت إلى زمن قريب أقف خطيبًا فى مجموعة من المصلين البؤساء، كان من سوء تقديرهم أن وقعوا تحت يدى خطبتى كل يوم جمعة، وقد أعملت فيهم الفتاوى كما يفعل كل الدعاة، المهم أننى وضعت لنفسى الصورة التخيلية، ووجدتنى أقف على المنبر كأيام زمان، وقبل صلاة الجمعة رأيت شابًا طيبًا كان من فرط حسن ظنه بى أن سألنى فى أمر من أمور الشرع، فقال لى: يا مولانا - الذى هو أنا - ما هو الحكم الشرعى فى رئيس الجمهورية الذى بذر الخلاف فى الأمة وقسمها هو وجماعته وبث فى جماعات الأمة البغضاء والشحناء وكان ذلك بأن أصدر عدة قرارات ترتب عليها اختلاف الأمة اختلافًا كبيرًا وعلى إثره سقط بعض القتلى وأهدرت الدماء ومُنع القضاة بالقوة من القيام بعملهم، ومن أعضاء جماعته تم ضرب واقتحام مشيخة الأزهر الشريف دون أن تحرك شرطته رمشًا، ثم قام بعض المجهولين من رعيته، فى حضور شرطته بضرب الكنيسة الكبيرة بالبلاد التى يصلى فيها إخواننا المسيحيون، وساعدت شرطته هؤلاء الرعية البلطجية على أعمال الضرب وسفك الدماء، فظهر أن الأمر متفق عليه، وكل لبيب بالإشارة يفهم

وحينما سمعت السؤال من هذا الشاب أيقنت أنه من شباب الثورة، فأكبرت فيه همته، وحماسته، وغيرته على بلاده، فكان أن وقفت على المنبر خطيبًا، وقلت للناس إن خطبتى ستكون عبارة عن فتوى شرعية، ردًا على سؤال سأله أحد الرعية، وإجابتى ستكون إن شاء الله مرعية، ثم تلوت عليهم السؤال الصعب، وقلت فى نفسى: «سهلها يا رب» ثم استغفرت وحوقلت، وقرأت من القرآن وتلوت، وهذا ما قلته بالضبط : نقول وبالله التوفيق إن الله سبحانه وتعالى قال فى القرآن الكريم ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ) .

وقد قال القرطبى رحمه الله: «فإن الله تعالى يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة، فإن الفرقة هلكة، واتحاد الأمة نجاة» ورحم الله ابن المبارك حيث قال:

إن اجتماع الأمة حبـل الله فاعتصموا منه بعروته الوثقى.

وأخرج الطبرى عن عبدالله بن مسعود رضى الله عنه قال: (حبل الله الجماعة) أى أن حبل الله فى اجتماع الأمة، ولاشك أن الاختلاف وارد، فالاختلاف يدل على التنوع، فالله لم يخلقنا لنتفق إذ تتعدد الأفهام، ولكن ينبغى للحاكم وهو يقدم قراراته للأمة أن يستشعر أثرها، فإذا وجد فريقًا من الأمة يرفضها فيجب عليه أن يتجنب الفرقة التى قد يحدثها قراره إذ إن هناك فارقًا بين الاختلاف والخلاف، فالاختلاف هو تنوع الرأى مع قبول التعايش، أما الخلاف فهو التحارب بين فريقين من الأمة من أجل انتصار كل فريق لرأيه، فإذا كان الحاكم هو المتسبب فى هذا التحارب بسبب قرارات أصدرها ومحاباة قام بها لفريق من الأمة على حساب فريق آخر، فيأثم ويتحمل وزر إهدار الدماء والأموال، بحسب أن مقاصد الشريعة هى حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل .

وقد أخرج الطبرى عن ابن عباس فى قول الله تعالى: ( وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيّنَـاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) قال: فى هذا ونحوه من القرآن أمرَ الله جل ثناؤه المؤمنين بالجماعة فنهاهم عن الاختلاف والفرقة وأخبرهم أنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وهذا الأصل العظيم وهو الاعتصام بحبل الله جميعاً، وألا يتفرق، هو من أعظم أصول الإسلام، ومما عظمت وصية الله تعالى به فى كتابه، ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم، ومما عظمت به وصية النبى صلى الله عليه وسلم فى مواطن عامة أو خاصة، وباب الفساد الذى وقع فى هذه الأمة بل وفى غيرها هو التفرق والاختلاف، فإنه وقع بسبب حكامها وأمرائها وعلمائها وملوكها ومشايخها وغيرهم من ذلك ما الله به عليم فإنه يأثم إثمًا كبيرًا، ولكن ليعلم أن رعايته من أعظم أصول الإسلام».

فإذا ترتب على الفرقة قتلى فإن ولى الأمر أو الرئيس الذى تسبب فيها يتحملها أمام الله ويجب أن يقتص منه قاضى القضاة، ولكم فى القصاص حياة يا أولى الألباب أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم، هذا وبالله التوفيق.

وقبل أن أدعو المصلين للصلاة، رأيت المشهد التخيلى يتطور، فقد قام أحد الإخوان، وهتف هتافًا منكرًا، وأخذ يسب ويشتم وأمسك بيده عصا فى جانب المسجد وهجم بها على الشاب الثائر، فاشتعلت المعركة فى المسجد، وتلوثت أرض المسجد بالدماء، فما كان منى إلا أن وليت فرارًا ولم أعقب، وحين خرجت من المسجد قابلنى أحد المواطنين الأعزاء من المسيحيين، فقال لى: هل ترضى يا عم الشيخ بالدماء التى سالت فى الكنيسة بسبب اعتداء الشرطة والإخوان عليها، فقلت له وأنا أسرع فى المشى: اجرِ سريعًا فقد وقعنا فريسة، فقد سالت الدماء فى المسجد والكنيسة