رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جماعة اللعب بالشريعة


من نكبات الأيام التى تدور بنا ولا نديرها أن يستدل بعضنا بآيات القرآن الكريم فى غير موضع الاستدلال، وأن يرفع بعضنا صوته بقال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم دون أن يعرف الواقع الذى يريد إخضاعه لحكم ما يتصور أنه الشرع ولا شرع غيره، والأدهى من هذا أن يتعسف أحدهم فى الاستدلال ليجعل رأيه مقدسًا وليُسكِت من يختلف معه فى الرأى فيتحول الاختلاف فى الرأى إلى خلاف مع الإسلام .

«يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود» هذه آية قرآنية من كتاب الله جل فى علاه «والموفون بعهدهم إذا عاهدوا» وهذه آية أخرى من القرآن الكريم، وبهما نتعبد لله سبحانه وتعالى كأفراد فى معاملاتنا مع الناس وكدولة فى معاملاتنا مع باقى الدول، وإذا كان الأصل هو الوفاء بالعقود والعهود، والذى ينكث بعهده ووعده إنما هو من المنافقين فإن هذا الأصل ليس مطلقًا مُحَصنا سرمديًا فالأصل هو أن الأصل فى المعاملات لابد وأن يرد عليه الاستثناء والاستثناء هو قرين الأصل يسير معه كظله وإلا لكان الدين صلبًا جامدًا جافاً لا يصلح إلا لزمن واحد وجيل واحد، أما الأصل السرمدى فى الشريعة الذى ليس له استثناء فهو أن الشريعة الإسلامية هى شريعة السعة والمرونة وليست شريعة التضييق والحجر، ولكن ليس معنى السعة والمرونة هو أن نضع «طاقية الشيخ حسن» على رأس «الحاخام شمعون» فيستلبها شمعون لنفسه ويتنعم بها فى الوقت الذى تئن فيه رأس الشيخ حسن من البرودة!! .

عبقرىُ هو ذلك المصرى الحكيم الحصيف الذى أطلق مثلاً عاميًا احتوى على نصف فقه المعاملات فى الشريعة، ظللنا نردده جيلاً بعد جيل «اللى يعوزه البيت يحرم على الجامع» وحينما سألنى صديق عن شرعية الاستدلال بالآية الكريمة «يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود» فى مجال إصرار الإخوان الذين يحكمون مصر على استمرار تنفيذ عقد تصدير الغاز مع إسرائيل فى الوقت الذى يتم فيه قطع الكهرباء عن كثير من محافظات مصر بسبب نقص الغاز، وقال لى إنه تناقش مع أحد المفتين من جماعة الإخوان الحاكمة والمتحكمة فى أمن مصر وأمانها فقال له ذلك الإخوانى وهو يؤكد ضرورة الوفاء بهذا العقد: «والموفون بعهدهم إذا عاهدوا» وقتها قلت للصديق: اللى يعوزه البيت المصرى يحرم على العدو الإسرائيلى ألف مرة.. إن هذا الاستدلال شبيه بما قاله الممثل الراحل حسن البارودى للزوج الضعيف المغلوب على أمره حينما كان يساومه على أن يطلق زوجته كى يتزوجها العمدة الدنىء الظالم إذ قال له بصوته المتعرج: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم!! هذا هو العبث بعينه ومن عبث فى الاستدلال حق لنا أن نعبس فى وجهه.

وكان الأعجب أن قال هذا الإخوانى العتيد إننا يجب أن نحافظ على عهدنا مع إسرائيل ويجب أن تكون سفارتها عندنا آمنة حتى ولو نقضوا هم عهدهم معنا وقتلوا جنودنا !! مع أن الأصل أنه لا عهد ولا ميثاق ولا أهلاً ولا مرحبًا مع من نكث فى عهده معنا وتعدى علينا.

فارق أيها الإخوانى المبرراتى بين العقد الذى يتفق مع الشريعة والعقد الذى بعقده يكون من عقده قد ارتكب جريمة يحال بموجبها إلى محكمة الجنايات مشفوعًا بالعار والشنار، ولا عهد مع من لعب بنا أمدًا وأضاع معنى العهد بعبثه وإجرامه وتعديه .. فلا كرامة لعهد مع من لا عهد له ولا لعقد - عُقد قهرًا رغم أنف الشعب- أراد عاقده بعقده أن يضع يده فى جيوبنا ليسرقنا لحساب عدونا ويربح هو نصيباً معدودًا... وبريئة هى الشريعة الإسلامية من الظلم والغبن والفساد والإفساد... فمن أراد أن يفسد ففساده عليه، ومن أراد أن يتربح بغير حق وبالرِشا وجَبْر الخواطر فلا جَبَرَ اللهُ خاطرَه، ومن أراد أن يظلم بلده مصر ويُجامل عدونا ويُسدى له صنيعًا لأنه صنيعته، فليجامله من ماله لا من مال مصر، فلم تكن مصر ميراثًا ورثه عن أبيه ولم نكن متاعاً يتحكم فينا كما يشاء ويُملى علينا ما يشاء ويلزمنا بما يشاء ثم يأتى الزمن الذى يقول فيه أحدُنا وهو يتفاقه «أوفوا بالعقود» ليبرر لنا الفساد والظلم والإفساد، وكأن الإسلام هو دين اليد السفلى والضعة والذلة والمهانة !! وكأن قدر مصر أن تتحمل نزق ونزوات من يحكمونها، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا ما لا يعرفون.

وإذا كان القانون المصرى يتفق مع الشريعة الإسلامية ومذاهبها فى العقود وعقدها وشروطها وفسخها وانفساخها وبطلانها وإبطالها فإن الشريعة الإسلامية هى شريعة العدل والتعادلية التى انضبطت بها القوانين التى استُمدت منها، لذلك جاءت الشريعة بما يضبط العقد ويعدل ميزانه بحيث لا يجور هذا على ذاك ولا تفتئت دولة على حق دولة ويكون العهد عندها مسئولاً.

فمن ناحية محل العقد وموضوعه فإنه يجب أن يكون منضبطًا بالأحكام الشرعية التى تنهى عن الحرام والظلم وهضم الحقوق، فحتى تنعقد المعاهدة أو العقد الدولى شرعا يجب أن يكون محلها شرعيا، فلا يجوز أن يُجرِى الحاكم نيابة عن الأمة عقدا مع دولة أخرى يتضمن الإضرار بمال الدولة وإنقاص حقوقها مثل بيع سلعة من السلع التى من شأنها أن ترفع اقتصاد البلد إلى بلد آخر بسعر أقل من الأسعار العالمية فتضيع على دولتنا واقتصادنا أموالنا التى من شأنها أن تصلح أحوالنا، ولا يجوز أبداً شرعًا ولا قانوناً لحاكم أن يمد عدو بلده الذى عقد معه هدنة بمال أو عتاد أو غاز أو بترول مما يقوى به العدو المهادن مقابل ثمن بخس دراهم معدودة، فينقلب هذا المال أو تلك السلع إلى أسلحة يتم توجيهها إلى صدورنا ويُقتل بها جنودنا على الحدود.

وإذا كانت مقاصد الشريعة تقوم على حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال فإن العقد الذى تُنتقص فيه هذه المقاصد أو تضيع هو عقد لا يجوز الوفاء به أبداً... والحق أن الوفاء بهذا العقد جريمة شنيعة فى حق الشريعة، وجريمة العصر فى حق مصر، ولكى يكون العقد فى الشريعة الإسلامية صحيحًا ملزمًا تنطبق عليه آيات الوفاء بالعهود والعقود والمعاهدات ينبغى ألا يكون هناك فى العقد ما يؤدى إلى امتهان مصر أو الانتقاص من كرامتها أو أموالها، ولكننا للأسف وقعنا فى براثن حاكم لا يحسن إلا الحديث عن الرضاعة والإسهال!! ولا يتقن إلا قتل المعارضين، وهو فى ذات الوقت مصمم على الاستمرار فى سياسات النظام السابق كأن شيئًا لم يحدث وكأن ثورة لم تقم