رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ظلمتنا ملايين الفضائيات.. أفرادًا وجماعات


جلس زميلى الصحفى قُبالتى، وعلامات الحسرة والغضب تبدو على وجهه.. لم يترك لى مجالاً لسؤاله، عما يعتصر فؤاده، ويرسم على محياه، كل علامات اليأس والإحباط، التى يمكن أن يتخيلها إنسان، فى شخص كان أهم ما يميزه هو تلك البسمة التى تعلو وجنتيه، والروح التى تشيع البهجة فيمن حوله.. قال: أربعون عاما انقضت من عمرى فى بلاط صاحبة الجلالة.. لأكتشف أن ما بين البداية ونهاية هذه الرحلة، قد ضاع، دون أن يكون حتى أثرا بعد عين.. وكيف ذلك، وقد استفقت على حقيقة، أننا كصحفيين فى مؤسسات قومية، أقرب إلى خيل الحكومة، يلقون إليها بالفتات، قبل أن يقرروا إطلاق رصاصة الرحمة على رأسها، توفيرا لهذا القليل، الذى لم يتناسب مع ما انقضى من سنى العمر، فى مهنة البحث عن المتاعب، إن لم تكن المهنة التى تقصف العمر، بعد قدر الله!.



وقبل أن يسترسل، استوقفته سائلا: قد كنت منطلقا مستبشرا، وتقول لنا دوما إن القادم أفضل.. فما بالك، وقد بلغت سن التقاعد، حيث الراحة وهدوء البال، وترجل الفارس عن جواده، بعد أن أدى ما عليه فى معارك الوطن.. فلماذا تغيرت قناعاتك وتبدلت أحوالك، ولم أعد أرى فى عينيك إلا نظرة لا ترى فى يومها، أو تنتظر من غدها أى نوع من التفاؤل والأمل الذى كان حاديك، حتى فى أحلك ما مر بنا من ظروف؟.

قال صاحبى: لقد ظلمتنا الحكومة أولا وآخرا، كما ظلمنا الناس، على طول الخط.. الناس رأت فينا نفرا يتقاضون الملايين فى كل عام.. صورة نمطية، رسم ملامحها أولئك الذين اعتلوا الشاشات، وتنافسوا فيما بينهم، كما تكالبت عليهم الفضائيات، تدفع لهم ما يشاءون، ما داموا قادرين على إثارة الجدل فى المجتمع، وتنهال على برامجهم الإعلانات، بقدر ما يضعون السم فى العسل، وبقدرتهم على إشعال الدنيا حريقا، حتى لو ذهب البلد إلى الجحيم.. وصار كل صحفى، خاصة فى المؤسسات القومية، فى نظر الناس، واحدا من هؤلاء، صيتا دون غنى.. مع أنه الرجل الذى لم تنتصر له الدولة، شأنه شأن كل من يعمل فى هذه المؤسسات، بدراهم معدودة، لا تسمن ولا تغنى من جوع، وكانت فيه من الزاهدين.. وضنت الحكومة عليهم بتنفيذ حكم قضائى، نهائى وبات، يقرر حدا أدنى لأجور الصحفيين.. فيا صديقى، ها أنا أختم عملى فى الصحافة، بعد أربعين عاما من العمل المضنى والشاق، وراتبى لم يتجاوز أربعة آلاف ونصف الألف جنيه، وعندما أنهيت إجراءات تقاعدى، تقرر صرف مبلغ، لم يبلغ الألف وخمسمائة جنيه، معاشا شهريا.. فهل يمكن أن يصدق أحد أن هذه أحوالنا، وذلك هو مصيرنا؟.

بعفوية شديدة، سألنى ابنى يوما: ألا تقدر يا أبى على تقديم برنامج على فضائية، من تلك التى تعود على صاحبها بالملايين، وهم فى مثل سنك، وربما كان بعضهم تلاميذ لك؟.. وكأن ولدى يريد أن يمرر لى، من طرف خفى، أننى لست كسائر العاملين فى هذا المجال، من القدرة على الفعل، والنفاذ إلى الشاشات، ولسان حالى يود أن يقول له: يا ولدى، إن من أحب مهنة الصحافة، تاه فى حبها وأخلص لها، كامرأة استحوذت على مشاعرك، وملكت وجدانك، فلم تعد ترى غيرها فى الوجود، ولم تلمس الجمال إلا فى محياها الوضاء.. حب دفع إلى الجرأة والشجاعة، كحال كل المحبين، فى التصدى لمشكلات المجتمع، والانحياز للدولة المصرية، معاضدا ومساندا، ومدافعا عنها ضد اللئام وكل من يتطاول عليها.. كنا، كصحافة قومية، ولا نزال، رمانة الميزان، فى معادلة الإعلام التى أصابتها الفوضى، وسيطرت عليها غلبة المصالح.. وسرعان ما وجدتنى أتراجع عن قول كل ذلك لولدى، لأنه سيرى فى كلامى تهويمات وخيابات، لن يقبلها عقله، بل سيرى فقط، أن أباه غير هؤلاء، ربما كان جاهلا أو مقصرا، وكلاهما أمران أحلاهما مُر!.

لقد تأكد لى، عبر مشوارى الصحفى الطويل، أن لدينا قارئا، يتيه غراما بالمخالف للدولة، المناوئ للحكومة، بغض النظر، أكان الحق فى جانب هذا المخالف أم حاد عن الصواب، فزهد عن الصحف القومية من زهد، وانصرف البعض إلى الشريك المُخالف، لأنه يُرضى لديه عطشا للمعارضة والمناوأة، فقل توزيع الصحف القومية وانخفض دخلها، وتكالبت عليها الديون، السيادية منها والتجارية، ولم ير وزير مالية الإخوان، زمن حكمهم، حرجا أن يكتب لنا، كمؤسسة قومية، مُبلغًا أن ديوننا، كضرائب متأخرة، قاربت المليار، وعلينا سدادها!.. ساعتها، كتبت مقالًا للرد عليه، عنونته «يا وزير المالية.. هذه ضرائبك ردت إليك».. أفهمته فيها أن انحيازنا للدولة المصرية، عبر عهودها المختلفة، صرف كثيرا من القراء عنا، ثمنا لهذا الانحياز.. ألا يكفيك هذا مقابلًا لما تسميه ديونا؟!.

ومازال صديقى مسترسلا فى حديث الوجع المُر، وقد اكتفيت من الموقف، بأن أسندت رأسى إلى كفى، وإحباط يتسلل إلى نفسى، من ذلك المصير الذى ينتظرنى بعد سنوات قليلة، أحتل بعدها، نفس مقعد الألم الذى يجلس عليه صديقى الآن، وكأنما هو جزاء سنمار، بعد أن قضينا عمرنا بأخلاق «الأم تريزا»، التى رأت أن خدمة المجموع وإنكار الذات، شرف لا يدانيه شرف.. لكن الحياة لا ترحم، والدنيا أصبحت نارا، ولم يعد للجنيه قيمة شرائية، ودخولنا ثابتة لا تتحرك من مكانها.. الكل وفق أوضاعه، حتى أصحاب المهن الحرة، وباعة الخضار، وحرك أسعاره، طبقا لتعويم الجنيه، إلا الموظف الحكومى، وإلا الصحفى الذى يقضى غالب يومه فى عمله، دون سقف من وقت.. فماذا عساه أن يفعل، والوقت لا يرحم والأسعار لا تراعى، وليس هناك إنسان ينظر إليه بعين الرحمة، حتى أولئك الذين تولوا أمره، المجلس الأعلى للصحافة ونقابة الصحفيين، الذين رأوا الصحفى يموت واقفا، لم يأبهوا له أو ينشغلوا به، لأنه كان لديهم ما يلهيهم من شئون أنفسهم.. والنتيجة: مؤسسات صحفية قاربت على الإفلاس، تمنحها الحكومة قبلة الحياة، بين وقت وآخر، فلا هى أنقذتها من الهلاك، ولا هى تركتها تموت، فى إعلان واضح بذلك.

انتفضت من مكانى، وربت على كتفى صديقى، وقد هممت بمغادرة المكان.. ولم أجد ما أقوله، إلا أنه ربما تجىء الأيام القادمة بما يتمنى، وقد تسوق لنا الظروف من ينتصر للمهنة ويرعى الله فى رجالها، ويدافع عن كرامة الصحفى، الإنسان الذى يريد أن يعيش حرا كريما.. لأن من مد يديه، لا يمكنه أن يمُد رجليه!.

حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.