رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محاكمة يوسف إدريس


الكبار لا يموتون، حتى لو انقضى على رحيلهم عن عالمنا العقود، ومضى على مغادرتهم دنيانا القرون، فالتاريخ لا ينسى من أسهم فى صناعته، ولا من ترك بصمة واضحة على صفحاته، بل إن هناك من يزداد بريقه مع مضى السنوات، وتتحدى ذكراه الزمن، وتثبت لامتحان الأيام !.



وكما أن من هؤلاء: الزعماء والقادة، والأنبياء والمصلحين، فمنهم المبدعون كالفنانين والشعراء والكتّاب العظام، فى العالم، وفى بلادنا، وإلا فمن ينسى «رمسيس الثانى»، «فرعون المجد والانتصار»، أو «أحمس» المحرر العظيم، أو «توت عنخ أمون»، الملك الذهبى، أو «حتشبسوت» الملكة الخالدة، ومن ينسى «المتنبى»، أو «البحترى»، أو «أبوتمّام»، أو «أحمد شوقى»، أو «حافظ إبراهيم» أو «نجيب محفوظ»، وغيرهم المئات من عظماء الموقف والكلمة!.

ومن هؤلاء الكاتب المبدع «يوسف إدريس»، والحديث هنا بمناسبة صدور كتاب مهم عن هذه الشخصية الفذة، والأديب الكبير، الذى شكّلَ بكتاباته ركيزة أساسية من ركائز الأدب المصرى والعربى المعاصر، ودفع به خطوات كبيرة على طريق التقدم والإنجاز؟!.

الكتاب عنوانه: «ضحايا يوسف إدريس وعصره»، للشاعر والكاتب والناقد والمؤرخ الأدبى، الأستاذ «شعبان يوسف»، المعروف فى كل الأوساط الثقافية والإبداعية فى مصر والوطن العربى، بدوره كمؤسس لأهم كيان ثقافى مستقل فى مصر والمنطقة: «ورشة الزيتون الإبداعية»، التى تقوم، منذ أكثر من ثلاثة عقود متصلة، دون دعم مادى من أى جهة داخلية أو خارجية، بواجبها الأساسى: التعريف بالجديد والأصيل فى الإبداع المصرى والعربى، فى مجالات الفن والأدب، والنقد والفكر، فضلًا عن دور «شعبان» المهم، كباحث فى التاريخ الفكرى والثقافى لمصر، والذى هيأ له إمتاعنا بمادة تجمع بين عمق الفكرة وطرافة العرض، وبين غزارة المعلومات ورشاقة اللغة، فمنحنا كتابًا يُجبرك على السهر إلى الفجر، سعيًا لالتهام صفحاته، وتفاعلًا مع ما يثيره من قضايا، وما يطرحه من إشكالات.

والموضوع الرئيسى الذى يثيره هذا الكتاب، موضوع على جانب كبير من الأهمية، يتصل بعناصر تشكيل وتطوير الوعى الثقافى والسياسى للمجتمع كله، ويعيد طرح قضية وجوب إعادة قراءة تاريخنا الثقافى والأدبى والفكرى، بل السياسى، بنزاهةٍ وتجردٍ، لاكتشاف كَمّ الإجحاف الذى وقع على عدد غير قليل من القامات السياسية والإبداعية، بعضهم كان يملك من الموهبة والكفاءة والعمق واتساع الخيال، ما يؤهله لتحقيق مكانة أرفع، وموقع أعلى، فى دائرة الضوء والمعرفة والانتشار، لولا حضور عناصر أخرى غير الكفاءة والموهبة، خاصةً بتفضيلات السلطة الحاكمة ودعمها، أو لتدخلات «الشلل» السياسية والأيديولوجية المساندة!.

وهذا الأمر هو ما رفع، فى حالتنا، مكانة كاتب كبير، مثل «يوسف إدريس»، وهو كاتب موهوب ومتميز باعتراف مؤلف الكتاب، إلى موقع أعلى من الجميع، الأمر الذى طغى على نصيبٍ مُستحقٍ لعشرات آخرين من الموهوبين والمبدعين العظام، مثل «محمد يسرى أحمد، ومصطفى محمود، وعبدالرحمن الشرقاوى، وإدوارد الخيّاط، ومحمد صدقى، وبدر نشأت، وصلاح حافظ، ويوسف الشارونى، ومحمود السعدنى، وعبدالله الطوخى، وفاروق منيب، ونعمان عاشور، وألفريد فرج، وصبرى موسى، وسليمان فيّاض، وأبوالمعاطى أبوالنجا»، وغيرهم من الكُتّاب والمبدعين الكبار، زاغت الأعين وهى تنظر لهم، بفعل طغيان صورة «إدريس»، التى هى خليط من الموهبة، والعلاقات بالسلطة السياسية التى احتضنته، وكرّست مكانته، فضلًا عن «البروباجندا» المساندة والمُروِّجة، من الدوائر الفكرية، المهيمنة ثقافيًا، التى انتمى إليها الكاتب، فمنحته تأييدها، وسعت إلى دعم وجوده، وتأكيد تميزه!.

هذا، باختصار، مضمون القضية التى طرحها الكتاب، وأوضحها المؤلف فى ثنايا السطور، وهى قضية مهمة تستحق الوقوف أمامها بإمعان، ومناقشتها بموضوعية، ونحن نسعى إلى إعادة صياغة مستقبلنا مُجددًا.