رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد الباز يكتب: خيانة العناني.. وزير الآثار مرفوع مؤقتًا من الخدمة


قبل أيام من التغيير الوزارى الأخير فى حكومة شريف إسماعيل – فبراير 2017 – تهامس عدد من المثقفين عن تفكير سيادى فى دمج وزارتى الثقافة والآثار، على أن يتولى الوزارة المدمجة الدكتور خالد العنانى، وزير الآثار، الذى هبط على الحكومة فى 23 مارس 2016، وكان لافتًا للانتباه أن المثقفين الذين لم يجتمعوا على أحد من بينهم، رحبوا بالعنانى.

اعتقدت ترحيب المثقفين عن قناعة ومعرفة بما أنجزه العنانى فى وزارة الآثار، أو على الأقل استنادًا إلى سيرته الذاتية التى من المفروض أنها أهلَّته قبل ذلك ليتولى منصبه، لكن تبددت الشكوك من حولى عندما عرفت أن المثقفين لم يتخلوا عن قناعاتهم وأمراضهم، وأنهم يرحبون بالعنانى، ليس لأنهم معجبون به وبأدائه، ولكن لأنهم لا يعرفونه من الأساس، وهو ما سيمكنهم من السيطرة عليه وتطويعه لما يريدون.

قد تعجبك السيرة الذاتية التى يقدم بها العنانى نفسه.

قائمة طويلة عريضة من الإنجازات العلمية، والمشاركة فى اللجان والمؤتمرات والمناصب الأكاديمية، والإسهام فى بعض البعثات الأثرية، وهى سيرة يمكن أن تجعل منه أستاذ جامعة عظيمًا، أو باحثًا فذًا، أو خبيرًا لا يشق له غبار، لكنها أبدًا لا تمكنه من أن يكون وزيرًا نعتمد عليه، فى وزارة من أخطر الوزارات فى مصر.

لن أحيلك إلى ملفات مهمة جدًا، تتعلق بعمل العنانى كوزير.

اسمح لى أن أذكرك بها بشكل عابر، فلدينا هنا ما هو أهم.

انتشال رأس تمثال رمسيس بحضور العنانى

بعد دخوله وزارة الآثار بأيام، تعهَّد العنانى بأن يقضى على الأزمة المالية الطاحنة التى تعانى منها وزارته، تحدث عن فكر استثمارى يمكنه من تعظيم مدخلات الآثار.

فى سبتمبر 2016 أى بعد شهور قليلة من توليه منصبه، صرح العنانى بأن ديون الوزارة 4.6 مليار جنيه.

وفى فبراير 2017 أى منذ أيام قليلة صرح العنانى نفسه الذى وعدنا بفكر استثمارى مختلف بأن ديون الوزارة بلغت 6 مليارات جنيه.

لن أطلب من الوزير تبرير هذه الزيادة، ولن أستفسر منه عن مسئوليته عنها، ولن أقول له: لماذا لم تسارع بتطبيق فكرك الاستراتيجى لتنقذ الوزارة من ديونها؟

أغلب الظن أن خالد العنانى دخل الوزارة بعقلية أستاذ الجامعة، الذى يتحدث كثيرًا عن الخلل، لأنه يعرفه جيدًا، لكنه لا يقدم أى حل لهذا الخلل، لسبب بسيط أن كل الحلول التى يملكها نظرية، لا علاقة لها بأرض الواقع، وهذه ليست مشكلته وحده، بل مشكلة آلاف من أساتذة الجامعة الذين دخلوا الحكومات المتعاقبة، وخرجوا منها بلا أثر.

كانت أمام خالد العنانى فرصة ذهبية لإعادة هيكلة وزارة الآثار، كان يستطيع أن يستعين بكفاءات تعينه على ما يريده، لكنه وبعد عام كامل قضاه فى منصبه لم يُقدم على تغيير رئيس واحد من رؤساء قطاعات وزارته، رغم أدائهم المتردى.

لن أتجنى على العنانى - وأقول كما يتردد داخل غرف وزارته المغلقة - إنه لا يريد الاستعانة بمساعدين ناجحين لهم اسمهم وإسهامهم فى مجال الآثار، حتى لا يكونوا بدائل له فى منصبه، ليس لأنه لا يفعل ذلك، ولكن لأنه كلام يفتقد إلى المنطق، فالوزير ومنذ 25 يناير، ومدة صلاحيته لا تتجاوز العامين على أقصى تقدير، وهو ما يعنى أن العنانى راحل عن الوزارة، إن لم يكن اليوم فغدًا، وإن لم يكن على ذمة فضيحة ما جرى لتمثال رمسيس الثانى فى المطرية، فعلى ذمة فضيحة أخرى.

التفسير الأقرب لعدم استعانة العنانى بمساعدين أكثر كفاءة ممن لديه، هو أنه لا يتمتع بالشجاعة الإدارية الكافية، يقولون عنه إنه طيب، مسالم، وهى صفات يمكن أن تقبلها فى صديق تتعرف عليه، لكنها أبدًا ليست سمات نُشيد بها إذا كانت هى كل ما يعرف عن المسئول، وأنزِّه الدكتور العنانى أن يتعامل معه مساعدوه فى الوزارة على أنه ضعيف الشخصية، فيمررون ما يريدون، دون أن يعيروه اهتمامًا، أو يعملوا له حسابًا.

من بين ملفات العنانى التى قَدِم بها إلى وزارة الآثار أيضًا، تعهداته بالحفاظ على الآثار وحمايتها من السرقة، اعترف هو بأن الوزارة بمعاونة الأجهزة المختصة تحبط تهريب ما يقرب من 3000 قطعة أثرية كل عام، لكنه ورغم معرفته بحال سرقة الآثار، فإن سرقات عديدة جرت فى عهده، آخرها وأقربها سرقة باب مقصورة الإمام الشافعى.

أعرف أن العنانى مر بتجربة مؤلمة على هامش سرقة الآثار.

ففى العام 2014، تولى الإشراف على متحف الحضارة، وتعرض المتحف لسرقات متعددة، تم خلالها تبديل القطع الأثرية الأصلية بأخرى مزيفة، وتم التحقيق مع العنانى فيما جرى، دون أن ندرى إلى أى شىء انتهت هذه التحقيقات، ولم يقل لنا أحد شيئًا عن مسئولية الوزير الذى كان مسئولًا عن المتحف وقتها، ولو حتى من الناحيتين الإدارية والسياسية.


كل ذلك وغيره يمكن أن تضعه جانبًا، فما جرى فى تمثال رمسيس، الأسير الذى خرج من طين المطرية، يدخل بنا مع الوزير إلى مساحة مختلفة تمامًا.

ستحتج علّى وتقول إن طريقة رفع رأس التمثال سليمة مائة فى المائة بصوت الدكتور زاهى حواس، فقد قال ذلك فى بيان أرسله إلى وزارة العنانى، ولأن الوزارة حريصة على توضيح الحقائق، فقد أرسلته إلى كل وسائل الإعلام «مصرية وعالمية»، طالبة البراءة للوزير.

العنانى برىء مما حدث فى استخراج التمثال، الذى شهده بنفسه، فطبقًا لبيان زاهى حواس الذى صدر صباح أمس الأول الجمعة، 10 مارس، الذى جاء متطابقًا مع البيانات التى خرجت من الوزارة، تتضح لنا عدة حقائق، بدا أن زاهى كان حريصًا على تأكيدها، ربما حماية للوزير الذى قال عنه إنه رائع ويضرب له تعظيم سلام، لمجرد أنه فتح المتحف المصرى يوم إجازة رسمية حتى يزوره «ويل سميث»، وكأن هذا إنجاز من المفروض أن نشكر الوزير عليه.

أما عن الحقائق فهى:

أولًا: تعانى منطقة المطرية من مشكلة كبيرة جدًا، وهى أن المنازل والمبانى الحديثة مبنية فوق بقايا معابد ومقابر أثرية.

ثانيًا: أغلب آثار هذه المنطقة سواء من التماثيل أو المعابد موجودة أسفل المياه الجوفية، على عمق ما بين اثنين وأربعة أمتار.

ثالثًا: التماثيل التى عُثر عليها لا يوجد بها تمثال واحد كامل، فقد تم تدميرها وتكسيرها خلال العصور المسيحية، لأنها بالنسبة لهم كانت مبانى ومعابد وثنية، فأغلقوها ودمروا التماثيل والمعابد، واستخدموا أحجارها فى بناء الكنائس والمنازل.

رابعًا: التمثال لرمسيس الثانى، وقد عثرت البعثة على قطعتين من التمثال، الأولى جزء من التاج، والثانية جزء كبير الحجم من جسمه ويزن 7 أطنان.

خامسًا: قامت البعثة باستخدام الونش لاستخراجه من باطن الأرض، وهذا تصرف سليم مائة فى المائة، حيث يستخدم الونش فى جميع المناطق الأثرية.

سادسًا: استند زاهى إلى ما قاله له رئيس البعثة الألمانية التى شاركت فى استخراج التمثال، بأن عملية رفع الجزء من الرأس تمت بحرفية شديدة، وأنه لم يحدث له خدش واحد، وأن التهشم الموجود فى الوجه حدث فى العصور المسيحية.

سابعًا: باقى التمثال موجود بالموقع، وسوف يتم نقله عن طريق الونش، لأنه لا يوجد بديل آخر، فهو موجود تحت المياه الجوفية، حيث سيتم تدعيم القطعة بألواح خشبية، وإذا لم يتم نقلها بهذه الطريقة، فلم ولن تنقل أبدًا.

ثامنًا: هذه هى الطريقة المتبعة فى جميع دول العالم لنقل أى قطعة أثرية بهذا الحجم موجودة على عمق مترين، تحت المياه الجوفية.

قبل أن يمضى زاهى حواس تاركًا بيانه فى يد الوزارة، ومنها إلى يد وسائل الإعلام، اختار أن يغلق الباب فى وجه الجميع، ويؤكد أن ما قامت به البعثة عمل علمى متكامل فى إنقاذ التمثال الذى عثر عليه كما أنه لا توجد أى طريقة أخرى أمام البعثة سوى استخدام هذه الآلات التى حافظت على التمثال.


أعرف الدكتور زاهى حواس، وأثق فى حياده ونزاهته العلمية، ولا أشك لحظة فى أنه قال شيئًا يخالف ضميره العلمى، لكن من حقى أن أسأل: ما الذى دفع العالم الأثرى الكبير إلى أن يصدر بيانًا رسميًا، يوضح فيه ما جرى لتمثال رمسيس فى المطرية؟

كان يمكن لحواس أن يكتفى ببعض المداخلات التليفزيونية التى قام بها بالفعل، كان يمكنه أن يرد على أسئلة الصحفيين، وساعتها كنا سنرفع رأيه فوق رءوسنا، لكن عندما يصدر بيانًا ويرسله إلى الوزارة التى قالت نصًا: «فى أعقاب ما أثير أمس حول الاكتشاف الأثرى الذى أعلنت عنه وزارة الآثار فى منطقة سوق الخميس بالمطرية، أرسل عالم الآثار ووزير الآثار الأسبق الدكتور زاهى حواس بيانًا لها، شرح فيه وجهة نظره فى هذا الكشف وملابسات الجدال حوله، وطلب من الوزارة إرساله إلى جميع المؤسسات الصحفية المصرية والعالمية لتكون شهادة حق للتاريخ».. فمن حقنا إذن أن نتحسس رءوسنا ونتساءل عن كواليس ما جرى.

هل استيقظ الدكتور زاهى حواس من نومه، فوجد الضجة التى تحاصر العنانى بسبب ما جرى فى تمثال رمسيس، فقرر من نفسه أن يكتب البيان، ثم يرسله إلى الوزارة، ويطلب منها أن ترسله بدورها إلى وسائل الإعلام فى مصر والعالم.

لو كان هذا صحيحًا، فللرجل جزيل الشكر من وزير الآثار وليس منا بالطبع، لكننى أظن وبعض الظن ليس إثمًا بالمناسبة، أن الدكتور زاهى كتب بيانه وأرسله للوزارة بعد اتصالات وربما إلحاحات كثيرة حتى يتدخل وينقذ الموقف.

لقد أصدرت وزارة الآثار بيانين كاملين عما جرى، لكن لم يلتفت لهما أحد، ولم يصدقهما أحد، فكان لابد من ظهور زاهى حواس بما يمثله من ثقل على المسرح، وهو ما استجاب له فى الغالب، ما يجعلنى أسأل أيضًا، إذا كانت وزارة الآثار بوزيرها وبرؤساء قطاعاتها وبمسئوليها الكبار، غير قادرين على إقناع الرأى العام بما يقومون به، فلماذا يستمرون فى مناصبهم من الأساس؟

سأصدق الدكتور زاهى حواس فيما قاله عن رفع الرأس، من ناحية لأنه هو العالم فى هذا المجال، ومن ناحية أخرى لأن عملية الرفع ليست هى المصيبة، فهناك ما هو أنكى.

حضر خالد العنانى عملية رفع رأس التمثال، التقطت له الصور التذكارية، فاكتشاف أثرى مثل هذا حتمًا سيدخله التاريخ من أوسع أبوابه، وضع العمال رأس التمثال على الأرض، ثم انصرف الجميع، بمن فيهم الوزير، دون الاهتمام بمصير هذا الرأس حتى يتم نقله إلى المتحف.

الفضيحة كانت مجسمة، عندما بدأ مصورو الصحف فى التقاط صورة لرأس التمثال وهو مهمل، يلعب به أطفال المطرية، وكأن التمثال لملك لقيط، لا قيمة له.

كيف نام خالد العنانى وهو لا يعلم شيئًا عن رأس التمثال ولا عن تأمينه؟ وما الذى كان سيفعله لو استيقظ على خبر سرقة رأس التمثال؟ وقبل أن يسأل كيف يسرق مثل هذا الرأس ووزنه 2 طن؟ سأقول له: كما أخرجته بونش، هناك من يمكن أن يسرقه بونش أيضًا ولا من شاف ولا من درى.

هنا تحديدًا يظهر تهافت الوزير، وعدم إدراكه حجم المسئولية الملقاة على عاتقه.

هنا تتمثل خيانة الوزير للملك رمسيس الثانى، أعظم ملوك مصر على الإطلاق، بعد أن ترك رأسه عاريًا على قارعة الطريق، والغريب أنه لم يواجه ما حدث، ترك العمال يلفونه بغطاء ملون يثير السخرية، وأغلق هو تليفونه، هربًا من أسئلة الصحفيين، فأصبح تليفونه خارج نطاق الخدمة، كما صاحبه تمامًا الذى هو فعليًا وزير مرفوع مؤقتًا من الخدمة.