رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

درس الأستاذ هيكل


في لحظة حاسمة، وصل فيها الخلاف بين الرئيس السادات، والأستاذ محمد حسنين هيكل، لنقطة اللاعودة، أصدر الرئيس السادات قراره الشهير بإقالة الأستاذ من رئاسة تحرير الأهرام، وتجهيز مكتب له بقصر عابدين كمستشار لرئيس الجمهورية، وقد أدرك الأستاذ بحسه الصحفي الخبير، أن المنصب الجديد المعروض عليه ليس أكثر من وضع كلماته ورؤاه الحية في ثلاجة موتى رئاسية!.

خرج من مؤسسة الأهرام فى صباح السبت 2 فبراير 1974م، متحدثًا لوكالات الأنباء بجملة واحدة: «إن الرئيس يملك أن يقرر إخراجى من الأهرام،أما أين أذهب بعد ذلك فقرارى وحدى، وقرارى هو أن أتفرغ لكتابة كتبى، وفقط»، ثم تحدث الأستاذ للصنداى تايمز فى السبت 9 فبراير 1974م، قائلاً: «إننى استعملت حقى فى التعبير عن رأيى، ثم إن الرئيس السادات استعمل سلطته، وسلطة الرئيس قد تخول له أن يقول لى اترك الأهرام، ولكن هذه السلطة لا تخول له أن يحدد أين أذهب بعد ذلك، القرار الأول يملكه وحده.. والقرار الثانى أملكه وحدى!».

صحيح أن الرئيس جمال عبدالناصر كان قد ولى الأستاذ هيكل مناصب رسمية، منها وزارة الإعلام، وكلفه بمهام رئاسية كثيرة خارج حدود طبيعة مهنته كصحفى، إلا أن الأستاذ أصر فى كل مرة أن يعتبر مهمته الأولى هى الصحافة، حتى إنه أدار وزارة الإعلام من مكتبه فى الأهرام!، اعتز دائما بكونه «جورنالجى» حسب تعبيره، فهو الرجل القريب جدًا من الرئيس عبدالناصر، منذ أوائل الخمسينيات، وحتى وفاته، واحتفظ بوفائه الشديد له، خشى من تحويل تجربة عبدالناصر الحية، المتصلة دائما بالشعب كقائد ومعلم، إلى «كهنوت» له معبد وكهنة تحتفظ لنفسها بالحق الوحيد فى التعبير عن جمال عبدالناصر، فكتب الأستاذ فى أربعين الزعيم مقالاً حمل عنوان: «عبدالناصر ليس أسطورة!»، وكان المقصود أن تجربة عبدالناصر تجربة حية وليست مقدسة، لكن حين اشتدت حملة التشويه غير الموضوعية ضد هذه التجربة الفريدة، كتب كتابه الشهير «لمصر لا لعبدالناصر»، مفندًا بمهارة ساحرة كل الأكاذيب التى تم الترويج لها فى تلك الفترة، وحين سألته فى أحد لقاءاتى المعدودة معه، بعد كل هذه التجربة الواسعة الثرية، أى كتاب ألفته تجده الأقرب إليك، قال دون تردد: «لمصر لا لعبدالناصر»!.

ظن البعض أن بابتعاد سلطة الدولة عن الأستاذ، وحرمانه من إدارة الأهرام، أو من مناصبه الرسمية إلى جانبها، فإن ذلك ينهى تجربته، لكن الأستاذ حين انطلق يكتب أهم كتبه وأحاديثه فى هذه الفترة، منذ 1974م، وحتى آخر حياته فى 17 فبراير 2016م، فقد سعى وراء المعلومات فى كل العالم، ودقق وفحص آلاف الوثائق من كل الدنيا، وأصبح لقاء الأستاذ شرفاً يسعى إليه أهم زعماء العالم وسياسيوه وصحفيوه، للاستماع لتحليلاته ورؤيته العميقة، أثبت لنا درس حياة الأستاذ، ونحن نستقبل منذ أيام ذكراه الأولى، أن أهم سلطة لأى صحفى، هى كلماته الحرة، وسعيه الدائم فقط وراء الحقيقة دون غيرها، سواء كان ذلك بالقرب من سلطة الدولة كما جرى فى عهد الزعيم عبدالناصر، أو كان بعيدًا عنها يكتب ويبحث، كما جرى بعد ذلك!.