رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من وحى التسريبات.. الشللية الثورية


منحت الثورة لمجموعة من الشباب الفطن ألقاباً ووظائف وأحيانًا مناصب وسمى هؤلاء الشباب إعلاميًا بـ«النشطاء السياسيين»، وفى رواية أخرى «الحقوقيين» الذين امتلأت بهم صفحات الجرائد والشاشات كضيوف تارة وكمقدمين للبرامج تارة أخرى!!

قبل الثورة كثير منهم كان عاطلاً عن العمل أو يعمل فى مهن صغيرة أو مؤقتة وينتظر الفرصة «الفرج»، وبعضهم كان يكتب الشعر أو يستمع له أو يمارس مهنة الصحافة على قدر ما قسم له الإله أو قسمت له الظروف حتى جاءت الثورة بالفرج والخير الكثير على اختلاف أنواعه.

 من حق كل إنسان على سطح كوكب الأرض والكواكب المجاورة أن يطل برأسه ليستنشق الهواء النقى وأن يعيش فى بيت آدمى ويحيا حياة كريمة وتتوافر لديه وسائل المواصلات المريحة والآدمية وتكون له مهنة ويتقلد المناصب أيضًا ولكن.. هل الثورة جُعلت أو من شأنها توظيف مشاهير الشباب دون غيرهم فى وظائف ومناصب ربما يستحقها غيرهم؟

وهل الثوار هم فقط من تصدروا الشاشات وصفحات الجرائد؟

المدهش بل المحزن فى الأمر.. أن من دفع حياته ثمنًا للوطن وخرج فى سبيله ولم تكن فى نيته - والله هو الأعلم بالنوايا- أن تكون روحه ثمنًا لراتب كبير يتقاضاه ذلك الناشط أو شهرة تتحقق لذاك أو منصب للثالث والرابع وهلم جرا.

هل أرواح الشهداء كانت فداء لوظائف وأمجاد يحصدها شباب بعينه دون غيرهم؟!

وهؤلاء «الغير» «فلان الفلانى»، والذى تتوافر لديه الروح الثورية والنبل والنقاء الثورى إلى جانب الكفاءة وأحيانًا التفوق فى مجال بعينه يقفز الناشط الشهير إليه بمنتهى البساطة فقط لشهرته لا لكفاءة أو استحقاق أو شهادة علمية أو تفوق حقيقى يؤهله لذلك، فقط لمهاراته فى القفز!

وأصبحت الثورة «شغلانة» «مهنة» أو«اشتغالة» لمجموعة أو جماعة أو فريق أو جبهة أوائتلاف أوحركة وبعبارة أدق «شلة»، وصارت جمهوريتنا بربوعها العديدة لا يوجد بها سوى هؤلاء، وكأنهم هم وحدهم الأكفاء القادرون على حمل لواء الوطن ورسم المستقبل دون غيرهم من أبناء الوطن.

وهكذا.. عادت الشللية المقيتة لتطل برأسها من جديد على وجه الوطن بعد أن عانينا سنين وقاومنا شللية العهد البائد لنفاجأ باستبدالنا شللية النظام القديم بشللية ثورية يدعم أفرادها بعضهم البعض ويزج كل فرد فيها برفيقه فى منصب هنا أو وظيفة هناك، بل يتبادلون الأدوار أحيانًا وكأنهم يقتسمون تركة الثورة ومعها تركة الوطن.

قد يتساءل من يتساءل .. وما ذنب النشطاء؟ هل نحملهم هم تقاعس الدولة عن توفير وظائف ومستقبل لأبنائها.. والكلام صحيح من الناحية النظرية ولكن عمليًا يعتقد الكثير من هؤلاء النشطاء- وليس جميعهم بطبيعة الحال- أن من حقهم الحصول على مكافآت مادية أو أدبية وكأنها أجور تعويضية نظير كل هتاف هتفوه.. وكل ضربة كوع لمستهم ولو بطريق الخطأ.

ناهيك عن شعور البعض منهم بأنهم كانوا مشاريع شهداء محتملين.. وإن لم يستشهدوا.. والذى استشهد كان غيرهم.. راح وراحت روحه سدى فداءً لشهرتهم وغنائمهم

ويرون أنفسهم أيضاً.. مشاريع أبطال وإن لم يمارسوا أى بطولة تذكر. ومشاريع مفكرين وزعماء وإن كانت تنقصهم بديهيات أى عمل سياسى فعلى منظم فى الواقع، أو مشاريع قادة ولا يدرون عن القيادة شيئا سوى النعيق والصوت الزاعق الطنان المفرغ من أى مضمون، وبالتالى يرون أنهم يستحقون التمجيد والخلود وكل مكتسبات الزعامة والقيادة والحصول وما فيها من صيت ذائع «شهيدِ كان محتملاً» وقائد ثورة ما تمت بل تم السطو عليها.

فى حين يرقد الشهيد الحقيقى وتعوض الدولة ذويه بجنيهات يقبض أضعافها الناشط فى ساعة حديث واحدة عن الثورة على شاشة من الشاشات.

هؤلاء كان لسان حالهم يقول نحن ملاك الثورة ولنا حق الحديث باسم البلاد والعباد فصك الثورة ومقاليدها فى أيدينا نحن الشباب الذى اشتهر ويحتكر اليوم الحديث عنها والتحدث باسمها بوصفهم الملاك الحقيقيين للثورة وللحقيقة المطلقة ولا شركاء لهم.

أما المجاميع الغفيرة التى اجتاحت الشوارع والميادين فهى كالمجاميع التى تظهر فى الأفلام التاريخية ومسلسلات الدراما السورية والتركية دورها إظهار الصورة فى أبهى حلة وشكل لها هم مجرد كومبارس لدى الريجيسير الأكبر، يحركهم كيفما يشاء ووقتما يشاء فى الاتجاه الذى يحدده هو.. فحقوق الثورية والملكية الفكرية لها حكر لهم فهم واضعو السيناريو لا أبناء هذا الوطن وشهداؤهم الذين ماتوا فى الواقع لا فى مشهد من فيلم سينمائى.. لكن هؤلاء فى النهاية هم مواطنون عاديون- من غير المشاهير- ومن غير النشطاء هم حيا الله مواطنون على ما قسم لهم، هؤلاء وإن ضحوا بدماء وأعين وأرجل وصدور امتلأت بما استنشقت وطفح بها الكيل وزيادة.. ورغم ذلك فهم فئة تقف مكانها عاجزة منكسرة قليلة الحيلة لم تتقدم ولم تتقهقر.. فمقاليد الثورة وقوانينها يرسمها غيرهم، يرسمها شبابها الشهير.. أما أنتم يا مواطنون فمجرد عساكر فى لعبة الشطرنج أو العسكر والحرامية.. تتم التضحية بكم وقت الحاجة.. أو الحديث عنكم وباسمكم وقت الحاجة أيضا وعند اللزوم فقط.. ويمكن تسخيركم فى أحيان أخرى للقيام بمهام جليلة تخدم فى الأساس المشاهير والأرباب الحقيقيين ممن وضعوا أياديهم على الوطن وثورته وضع يد قسرى احتكارى، ولذلك وبسبب كل ما ذكر أعلاه تنبأ البرادعى بسرقة الثورة ونهبها وانتهاكها وابتذال الصراع وحادت بالفعل الثورة عن مسارها، وصارت للإخوان فريسة نرزح حتى الآن تحت طغيان وجبروت انتقام الجماعة المجرمة من الدولة ومن شعبها.. يا لها من ذكريات ونوستالجيا نتحسر على ما كان وما عشناه الآن بكل ما عشناه من نبل ثورى مارسه ملح الأرض.. أنتم شعب مصر ورسمه فلان الفلانى غير الشهير والذى لا تسمع له الآن ركزاً، للشعب المجد على الأرض وفى الأعالى وللمجهولين عديمى المآرب .. الله والوطن.