رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التغريد المنفرد.. من أخطاء العالم الثالث


عادة بلادنا احترام الموتى ومشاعر ذويهم أو جيرانهم أو معارفهم، ولما كانت رقعة الأرض الصالحة للعيش فيها ضيقة للغاية، كان لابد من مجاملة الأهل والجار وذى القربى مهما بعدت فروع شجرة العيلة...


... عشنا زمانا رأينا فيه عمليات القبض والاختفاء حتى لم يستطع الأهل فى تلك الحقبة التى عرفت بالكآبة وغلق الأبواب والتصنت تحت الغطاء فى الليالى الباردة ومعنا مصباح يدوى صغير عبارة عن كاشف للطريق استخدمناه فى ضبط محطات الإذاعة. عشنا أياما كنا نستمع إلى بعض إذاعات عربية وغير عربية لنعرف شيئا من أخبار بلادنا كما يذكره غير أبناء بلادى.

لم نكن نسمع فى طفولتنا وشبابنا عن تفرقة عنصرية وخاصة بسبب الدين، ربما كانت الفروق المادية - أى أبناء الطبقات العليا الذين يركبون السيارات ذهاباً إلى مدارسهم أو جامعاتهم لكن ما لم نكن نعرفه التفرقة العنصرية لسبب اختلاف الدين. أما وقد وصلنا إلى طريق شبه مسدود حتى إن رئيس البلاد وهو عسكرى عرف أن يفصل بين قسوة العسكر وهم محقون لأنهم يراهنوا على الموت فى سبيل الوطن. ويعوزنا الوقت للكتابة عن الأحوال والأهوال التى فيها ديست رقاب ورءوس الشباب بالأحذية، تلك الحقبة التى ديست فيها كرامة كل من خرج على فكر النظام أو القائد وكان الشعار المهيمن هو «لا صوت يعلو على صوت المعركة» ، وتحت هذا الشعار الذى تبنيناه جميعا للخروج من أزمة الكرامة ورد الاعتبار بعد هوان الهزيمة عام ١٩٥٦ و٦٧ وربط تلك الفترة ببدايتها فى عام ١٩٤٨ وكأن مصر هى الدولة الوحيدة التى تتحمل وحدها ما حدث فى فلسطين دونا عن الشركاء فى الأخوة والكرامة من الأسرة الشرق أوسطية، وبالفعل كانت مصر ومزالت هى الأخت الكبرى التى عليها أن تأخذ دور الأمومة بين أشقائها من أبناء وبنات دول الجوار.

وعانت مصر والمصريون جميعا حصاراً اقتصادياً، ومعاناة شعبها من شظف العيش، وكان هذا كله محتملا، بل وبرضاء كامل لتحرير أرض وصيانة عرض رأيناه واجب الأخ الأكبر لحماية الأخوة حتى كدنا أن نتحارب معاً إن لم يكن بالسلاح فكنا بالمبارزة الكلامية والتعالى المادى على الشقيقة الكبرى التى أخذت دور الأم الحانية التى تجوع وتعطش من أجل راحة وكرامة الأشقاء، ولعل ما حدث يذكرنا بمعركة خاضها الأمريكيون ليست بين جيوش معادية، ولكن بسبب الحرية والكرامة للإنسانية. ففى أمريكا أو ما عرف بالأرض الجديدة التى دخلها أو اكتشفها الأوربيون عرفوا تجارة رائجة ورخيصة التكلفة أطلق عليها تجارة الرقيق مع أول سفينة هولندية على ظهرها عشرين عبدا ترسو فى ميناء المستعمرة الإنجليزية بولاية فرجينيا، ومنذ بداية هذه الواقعةراجت تجارة الرقيق حتى بلغ عددهم نحو سبعة ملايين من الرجال والنساء شحنوا كبضاعة رائجة رخيصة إلى العالم الجديد.

وظلت هذه التجارة رائجة حتى بدأت حركة تحرير العبيد والتى قادت إلى حرب أهلية بين طرف يقاوم وقف هذه التجارة من أصحاب الإقطاعيات الزراعية الكبيرة والتى كان يعمل بها العبيد دون أجر غير لقمة العيش وسترة للأجساد التى سيقت اليهم عارية، ودارت معركة حربية أهلية بين راغب تحرير العبيد باعتبار رقهم مخالفا لإرادة الخالق الذى كرم الإنسان وجعله قمة خليقته، وبين فريق المستفيدين من عمالة رخيصة، وبين دعاة التحرير وتكريم البشر بألوانهم وخلفياتهم المختلفة. فى تلك الحقبة كان أغنياؤنا يمتلكون عبيدا وجوارى يباعون فى سوق يطلق عليها سوق النخاسة، أى السوق الذى فيه تباع تلك البضاعة من عبيد وإماء «جمع أمة أو مؤنث العبد»، والعبيد والإماء كانوا يباعون فى الأسواق وهم موثقون عراة وعلى المشترين من السادة والسيدات أن يتأملوا فى البضاعة المعلنة من حيث أعمارهم وصحتهم وقوتهم، وهذه مواصفات ترتبط بأسعارها السوقية والأعمار كما يقدرونها، فليس من سجلات تحفظ تواريخ ميلادهم أو أماكن وجودهم، أو حتى سابق تصرفاتهم، فكان منهم من هرب من سادتهم خوفا من قتلهم، أو سوء معاملتهم لعبيدهم، ومنهم من شحن من مواطنهم الأفريقية إلى الأرض الجديدة. ولم تتوقف هذه التجارة إلا بعد حرب أهلية دامت لأكثر من أربعة سنوات بين مؤيدى تجارة الرقيق باعتبارهم ايدى عاملة بلا تكلفة تذكر والقيام بأعمال شاقة لا يرغب الرجل الأبيض أن يقوم بها. أما فى مصر فقد وصلها فى ذلك العصر بعضا من هذه التجارة التى استخدمها أغنياء مصر فى الأعمال الشاقة وحتى خدمة منازلهم وتربية أولادهم وأصطحاب أولادهم إلى مدارسهم والبقاء فى رعايتهم وحتى عودتهم إلى منازلهم.

وَمِمَّا يذكر لكنائسنا الانجيلية إنها كانت أول من قاومت أو على الأقل لم تشجع حركة الرقيق وأسواق النخاسة حتى إنها رفضت إسناد مسئوليات قيادية فى الكنائس لمن يمتلك عبيداً أو إماء باعتبار هذه التجارة والاستفادة منها مخالفا لمقاصد الله الذى كرم الانسان وجعله على قمة خليقته لا فرق بين البشر بسبب اللون أو اللغة أو العادات والتقاليد. أما دافع الكتابة فى هذا الموضوع مجدداً، فهو خروج أحد الدعاة أوالمدعين الذى سمعته بسمع الإذن ورؤية العين يتحدث عن الرّق الدينى، أى أن من يعتقد أنه من اتباع ديانة أفضل من حقه أن يغزو دول الآخرين محارباً لا لرد اعتداء وإنما لغزو الآخرين ثم استعبادهم، ومن بقى منهم على قيد الحياة يصبحون رقيقاً، وإماء يوزعون على المحاربين حتى أنه ذكر مثالاً لحل المسألة الحسابية بالقول لو اننا غزوناهم وبقى منهمنصف مليون يوزعون على المشاركين فى المعركة وليس لغيرهم من الذين لم يشاركوا فى الغزو، فَلو كان من نصيب كل مقاتل وغاز خمسة رءوس فيأخذ أثنين من الرجال واثنين من النساء وطفلا واحداً.

فإذا كان فى حاجة إلى مال فله أن يبيع من الذين حصل عليهم فى سوق أطلق عليها سوق النخاسة. كما ذكر هذا المتحدث أنه لو كان عليه ذنوب فيمكن أن يشترى عبدا من هذه السوق، ثم يطلق صراحه، وبهذا يكون قد محى ذنوبه وأرضى ربه وغفر ذنبه من سوق النخاسة. إننى لا ألوم فردا أو بضعة أفراد لهم هذه النظرة الدونية إلى المخالفين عنهم فكرا أو عقيدة، وكنت انتظر من الذين سمعوا ورأوا مثل هذا الصوت ولكنهم صمتوا، إما رضاءً أو استهجاناً صامتاً، مع أننا نعرف وصف الصامت عن الحق. وحتى أكون أكثر إنصافا أو تصورا أن هناك صوتا أبدى رفضه أو استياءه فى صوت هادئ لم نسمعه، وكانت رغبتى أن لا أطلق ردا لاستهجان ما ذكر واعتبار القول وقائله خارج الزمن الذى نعيشه ولكنى تقديرا لأشخاص أساءهم ما أساء لكثيرين من العقلاء والفاهمين فقد آثرت أن أشير إلى استيائهم من جانب، وحتى لايتخيل عاقل من العقلاء أن يخاطب الآخرين من المغايرين دينيا بمثل هذا النهج، مع يقينى أنه كثيرا ما نردد عبارة خير رد عدم الرد، ولكن تقديرا للكل بما فيهم حتى أصحاب الديانات غير الإبراهيمية وهم أكثر عدداً حتى من مجموع عدد أصحاب الديانات الإبراهيمية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلامية، «الترتيب تاريخياً» وغيرنا أكثر منا عدداً ويقدرون بنحو أربعة مليار نسمة وقد يحلم ذلك المتحدث البليغ بقسمة هذا العدد عليه وعلى إخوانه أيضا، إننى أنتظر أحد المفكرين الذين يعرفون ذلك المدعى أن يصححوا له بعض مفاهيمه حرصاً على احترام العالم لتفكيرنَا، فليس هذا من أفكار العقلاء، وغالبيتنا ليست من أولئك ولا معهم.

■ الرئيس الشرفى للطائفة الإنجيلية بمصر