رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الثقافة فى الـنكـتــة


فعل «نكت» فى اللغة العربية يعنى فى الأساس أن يترك المرء أثرا على الأرض بعود أو نحوه ، والنكتة هى الأثر الحاصل من نكت الأرض، أما مفهوم النكتة باعتبارها حادثة مروية مضحكة فلا يرد فى اللغة إلا فى حدود ضيقة بصفتها «الفكرة اللطيفة المؤثرة فى النفس»...

الشيء اللافت للنظر أن كلمة «نكتة» بالعربية تضمنت جزءا من نطق الكلمة ذاتها باللغات الأوروبية «anecdotes»، و ربما تكون تلك اللغات هى التى استوعبت الكلمة العربية فى لفظها. والنكتة فى نهاية الأمر حادثة مروية أحيانا تكاد تكون أقصر شكل قصصى، تعكس بدرجة أو بأخرى ، وبأشكال متفاوتة، حالة المجتمع والبشر الثقافية. لهذا فإن النكات عندنا تختلف كثيرا عنها فى روسيا مثلا. عندنا ستجد نكتة مضحكة حقا لكنها فى الأغلب الأعم تعكس محدودية الجانب الثقافي. سيحكى لك البعض مثلا أن حكما بالإعدام صدر على مواطن من بلدياتنا فسألته مذيعة تليفزيون» ما شعورك قبل إعدامك؟» فيجيبها «هى عبرة للمستقبل»! أو أن مواطنا من الصومال ركبه عفريت فمات العفريت من الجوع بعد ثلاثة أيام! الآن اسمع نكتة روسية لتدرك ما أقصده بأن النكتة تعكس الفروق الثقافية ودرجة التطور: واحد يحكى لصديقه إنه ذهب بالأمس إلى المسرح مع زوجته وشاهدا مسرحية عطيل. قال له صديقه : آه.. نزهة ثقافية يعني؟ أجابه الأول : بل تحذير! لتأليف مثل هذه النكتة، والضحك منها يقتضى الأمر العلم بمسرحية شكسبير وبأن بطلها عطيل قتل ديدمونة بسبب الغيرة، ومن هنا كان اصطحاب الزوج لزوجته إلى المسرحية تحذيرا لها! ترى هل يمكن أن نجد عندنا نكتة تعتمد على حضور نص أدبى، أو مسرحى مثل «حلاق بغداد»؟ لا أظن.

فى مجال النكتة الروسية ستجد أيضا عددا لا ينتهى من النكات التى تدور حول الفرسان الثلاثة الذين اخترعهم الكسندر دوماس! وعددا آخر حول شخصية شرلوك هولمز ومساعده د. واطسون، وغيرهم من شخصيات الأدب العالمي! تشتمل النكت الروسية على وجود شخصيات أدبية مثل «آنا كارنينا» أو «راسكولنيكوف» بطل الجريمة والعقاب، فهل يمكن أن نجد لدينا نكتة عن السيد أحمد عبد الجواد من الثلاثية؟ أو بطل البوسطجى ليحيى حقي؟. كلا، لأن النكتة هنا تعكس مدى انتشار الثقافة فى المجتمع. فى النكتة الروسية ستجد أيضا مجالا واسعا للاستعانة بمواضيع الأساطير الشعبية ، بل وتأتى بعض النكات الروسية فى شكل قصيدة شعرية محكمة الوزن، وهى حالة لا تعرفها النكتة المصرية أو العربية على الإطلاق، ومثل هذه النكات القصائد تقتضى أن يكون المتلقى والراوى والمجتمع على علاقة بالشعر. نحن نعشق النكت ، والمرح ، والغناء كما لاحظ ابن بطوطة حين زار مصر لكننا لا نعشق الثقافة بالقدر نفسه! أو ربما أننا نعشقها لكنها ليست متاحة بأسعار فى متناول أيدينا لارتفاع أثمان الكتب، ومن الصعوبة بمكان أن نتحدث عن انتشار الثقافة أو تغلغها بين الناس قبل أن تصبح الروايات والأعمال الأدبية وأشخاصها والقصائد جزءا من صميم النكت الشائعة لدينا.