رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بلدنا.. الله على سحرها!


وأنا أحاول جاهدة السير فى شوارع القاهرة، لا أدرى لماذا تذكرت أغنية «من فوق برج الجزيرة.. الله الله على سحرها»، وكان المطرب الذى تغنى بها فى أواخر ستينيات القرن الماضى، يقصد سحر القاهرة فى الأيام الخوالى، والنيل يجرى مختالاً بين ربوعها العريقة قادمًا من العمق الأفريقى، وهو الذى خلَّده العظيم جمال حمدان فى كتابه الرائع «شخصية مصر». هذا النيل الذى التفت حول جسده الأفعوانى العديد من الأحياء السكنية المكتظة بالسكان، إضافة إلى كارثة العشوائيات التى قضت على كل مظاهر الآدمية الحضارية، وكان من الطبيعى أن تتفتح فى طيات هذه الشبكة العنكبوتية الضخمة العديد من الشوارع والحوارى والأزقة والعطوف، ولتتفرع إلى بقية المدن الكبرى فى الريف والحضر. وهكذا ظهرت الأزمة المستحكمة فى شرايين العاصمة والمدن الكبرى فى مصرنا المحروسة، وهى أزمة المرور التى ظهرت منذ نهاية سبعينيات القرن الماضى، وازدادت تفاقمًا منذ حقبة الثمانينيات نتيجة تزايد ظاهرة الهجرة من الريف إلى القاهرة الكبرى والعاصمة الثانية الإسكندرية، وبقية مدن الوجهين البحرى والقبلى، ولكنها ملموسة بشكل فج فى القاهرة والإسكندرية، وحاولت الحكومات المتتالية وضع الحلول التى تصورت أنها ستقضى على المشكلة من جذورها، فتوسعت فى زيادة رقعة الطرق على خريطة الجمهورية، وأضافت مئات الكيلو مترات من الأسفلت، ودخلت مصر إلى عهد خطوط مترو الأنفاق، ولكنها كانت حلولاً جزئية لم تقض على المشكلة، لأنه مع الزيادة الطردية المستمرة فى عدد السكان، ومع زيادة التوسع الأفقى والرأسى، كانت الحلول الجزئية بمثابة المسكنات المؤقتة وكأنها لم تكن، فالتوسع الأفقى فى العشوائيات المحيطة بأطراف العواصم، والتوسع الرأسى بزيادة أعداد السيارات، جعل الأحوال بتعقيداتها تستمر على ما هى عليه، وازدادت الاختناقات المرورية وازداد ـ كنتيجة منطقية ـ إهدار الوقت والطاقة البترولية، نتيجة التوقف المتكرر فى الإشارات، وكلاهما خسارة لا تعوض، فالوقت هو الحياة للإنسان الذى تشل حركته فيتوقف عن الإنتاج، وإهدار الملايين من الطاقة البترولية التى تضيع فى تلك الاختناقات المرورية، ومعها ارتفاع نسبة التلوث بعوادم السيارات فى البيئة المحيطة، أى أن الخسائر تتضاعف نتيجة عدم الدراسة العلمية الجيدة لشبكات الطرق، وضرورة العمل على رسم وإيجاد المحاور البديلة، للجوء إليها فى حال الحوادث أو الاختناقات التى قد تحدث لأى اعتبارات أمنية أو مرورية طارئة، وهذا وارد فى جميع مناحى الحياة العملية.

ويبدو أن القائمين على التخطيط للشوارع والميادين فى العواصم الكبرى فاتهم أن خريطة الشوارع تشبه الشرايين فى خريطة الجسد الإنسانى، فانسداد شريان واحد يؤدى إلى بطء الدورة الدموية التى تؤدى بدورها إلى الموت البطىء، وأن الشوارع تشبه تمامًا نظرية الأوانى المستطرقة التى يعرفها تلاميذ المرحلة الابتدائية، وتوقف أحد الشوارع يعنى انسداد جميع المنافذ المؤدية إلى السيولة المرورية فى كل الأنحاء، وهى ألف باء التخطيط الجيد والواعى، ولكن يبدو أنه قد غاب عن ذهن من يقومون به، فهم يركزون على الاهتمام بالشوارع الرئيسة، دون الاهتمام بالمصادر الأصلية للمشكلة، وهى الشوارع الجانبية التى تعج بالباعة الجائلين لكل شىء، والمحال بإشغالاتها التى تستولى على الأرصفة بالبضائع المتراصة، ناهيك عن المطاعم التى تقوم باصطفاف المناضد والمقاعد لعابرى السبيل من الجائعين، والمقاهى والكافيتريات التى تفترش الأفاريز فى فجاجة، وتخرج لسانها لكل الأعراف والقوانين الإنسانية والأخلاقية، ولا تضع للقوانين الوضعية بالاً، لأن القاعدة تقول: من أمن العقاب ساءت تصرفاته وسلوكياته، فلا رادع له من أخلاقٍ ولا من قوانين! إذن بعد كل هذا الهرج والمرج على أرصفة الشوارع، فلا مناص للمارة سوى اللجوء إلى نهر الشارع للسير مع كل ما يأتى به من مخاطر، ليكونوا لقمة سائغة للسيارات ومصدرًا مستديمًا لأعمدة الصحف فى صفحات الحوادث وما أكثرها وسط هذا الزحام العشوائى الرهيب.

ومع ازدياد هذه العشوائية، لابد لنا من سرعة إيجاد الحلول الناجزة، ورسم السياسات على المديين القصير والبعيد، بسرعة إزالة جميع إشغالات الطريق من كل الأنواع فورًا، وبالطرق القانونية غيرالمجحفة لحقوق من يمتلكون التراخيص الصادرة من جهات الاختصاص، وفى الأماكن التى يتم تحديدها لهم بمزاولة مهام مهنهم التى يعيشون على دخولها، دون اللجوء إلى التحايل على القوانين باحتلال الشوارع دون وجه حق. وضرورة إحياء مشروع قديم تم طرحه من بعض المسئولين فى فترة سابقة، عن تخصيص يومين فى الأسبوع بالتبادل لسير السيارات الخاصة ذات الأرقام الفردية والزوجية داخل العواصم من السابعة صباحًا إلى الحادية عشرة ليلاً، مع فرض ضريبة على من يريد استخدام السيارة الخاصة طوال الأسبوع.

وقد يكون من بوادر الحلول السعيدة فى المدى القريب، هو الخطوة العملاقة التى تهدف إلى إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة، التى تعد أحد الحلول الرئيسة والمهمة للتقليل من التلوث الهائل الخطير للقاهرة، وطوق النجاة للخرج من الغرق فى العديد من المشاكل البيئية والحياتية داخل المجتمع القاهرى تحديداً، ولتحقيق الانفراجة المرجوة لسيولة وسهولة السير داخل بوتقة الأوانى المستطرقة المستعصية على الحلول، ولقد بدأت البشائر لمشروع العاصمة الإدارية الجديدة على مساحة هائلة خارج العاصمة، وسيكون لها أكبر الأثر فى امتصاص الاختناقات المرورية، وتحقيق أكبر الخدمات للمواطنين، للتفرغ لزيادة القدرة الإنتاجية وتوفير الوقت والجهد والطاقة، حينئذٍ سنتغنى ببلدنا الحبيب: الله الله على سحرها!