رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فوزى فهمى.. ومنارة الترجمة


مقولة رائعة أعجبتنى فحواها: إن الاقتباس مفتاح الخلق الإبداعى، والترجمة مفتاح التأليف! وهى مقولة صائبة تعكس مدى أهمية حركة الترجمة فى عالمنا المعاصر الذى غدا قرية صغيرة، تربط أطرافها هذه الشبكة العنكبوتية الأثيرية التى تسبح على أمواج الفضاء اللانهائى. والعالم دون حركة الترجمة كالبنيان الشامخ الذى ارتفع ليناطح السحاب، لكنه بلا نوافذ تمنحه الهواء والشمس، والإطلالة على بانوراما الدنيا بكل جمالها وروعتها...

... تلك الإطلالة التى عنى بها الخلفاء المسلمون، وكان أكثرهم نشاطًا فى هذا الأمر «الخليفة العباسى المأمون»، فجعل من «بيت الحكمة» الذى أنشأه والده هارون الرشيد مركزًا للإشعاع الفكرى جلب له كتبًا من أقصى البقاع، أمر بترجمتها إلى العربية، «وقال بعض المؤرخين إن المأمون كان يدفع وزن الكتاب المترجم ذهبًا»! إلى أن جاء محمد على ليبنى مصر الحديثة، فاهتم بإيفاد البعثات إلى أوروبا، ليعودوا بكل ما تعلموه لاستنارة وإثراء الحركة الفكرية.

فما بالنا بالواقع المعاصر والمستقبل القريب الذى يشير إلى ضرورة إيجاد لغة تفاهم وحواربين الشعوب والأمم، ولا سبيل إلى هذا التواصل الخلاَّق إلا من خلال الترجمة وحدها، فهى تلعب دور الوساطة بين اللغات المختلفة، ولولاها ما استفادت كل أمة من علوم وفنون الأمم الأخرى، ولا رأينا كل هذا الازدهار العلمى والمعرفى الإنسانى، ولابد لنا أن نقر بأن لا المعرفة العلمية وحدها تغنى، ولا المعرفة اللغوية وحدها تكفى، بل لابد من امتزاجهما، فضلاً عن ضرورة امتلاك مهارات المعالجة الترجمية وطرق النقل وقواعدها وما يشترط فى المترجم الكفء من مقومات وخصائص نأمن بها على إنتاجه فنتلقاه فى ثقة.

من هذا المنطلق، بزغت الفكرة العبقرية كبارقة ضوء متوهجة فى ذهن المفكر والأديب الكبير أ.د. فوزى فهمى- رئيس أكاديمية الفنون الأسبق- بضرورة إقامة صرح «مركز اللغات والترجمة» ليكون منارة فى قلعة «أكاديمية الفنون »، وقد ظهر وعيه بأهمية الترجمة ودورها لديه بدافع الغيرة على حقائق التراث المصرى والعربى الذى تشوبه بعض المغالطات من مترجمى الغرب غير المحايدين مذ كان معيداً. وأترك الحديث على لسانه فى مقاله «الفارس النبيل».. يقول: «... كان قد مر على تعيينى معيدًا ثلاث سنوات، فإذ بى أتلقى استدعاءً لمقابلة د. ثروت عكاشة وزير الثقافة، عندما جلست إليه سألنى عما جاء فى مقالى بصحيفة الأخبار، بشأن الكتاب الصادر بالإنجليزية «دراسات فى المسرح والسينما عند العرب»، لـ «يعقوب لنداو»، الأستاذ فى الجامعة العبرية بالقدس، وتحديدًا سألنى عما يقلقنى فى الكتاب، فأجبته أن المؤلف يطرح مفاهيمه الافتراضية المخالفة للحقائق والوقائع، التى تحتاج إلى مواجهة من المختصين العرب حتى لا تفرض هيمنتها على تاريخنا، لذا طالبت فى المقال بترجمة الكتاب والتعليق عليه، فطلب منى ترشيح أحد أساتذتى لكتابة تقرير عن الكتاب، وبفضل الرجل الذى جعل الفهم يصير تفاهمًا، ترجم الكتاب ونشر...».كانت رؤية أ. د. فوزى فهمى ثاقبة وتستشرف المستقبل بنظرة واعية، ولإيمانه العميق أنه برغم كل جهود الترجمة المبذولة فى العالم العربي، إلا أن نسبة الإحصائيات تشير إلى ضآلة مايتم ترجمته من أمهات الكتب العالمية، وقناعته بأن حركة الترجمة كانت ولا تزال أحد أبرز المعايير التى يقاس بها حجم التطور الثقافى والعلمى بعد مرحلة التأليف. فحركة الترجمة تعمل على حماية الثقافة والحفاظ على الهوية من خلال تعريف الشعوب بثقافات وفنون ومعارف بعضها البعض، خاصة أن هذا الصرح يقوم على الترجمة بسبع لغات متخصصة، الأمر الذى ينعكس بالإيجاب على حركة الفنون كافة، خاصة إذا علمنا أن المركز قام بترجمة مايقرب من أربعمائة كتاب فى جميع التخصصات، بفضل توجيهات ورعاية ومتابعة د.فوزى فهمى، الذى قام بتكليف نخبة منتقاة من الأساتذة المتخصصين بهيئة التدريس بالمركز لخروج تلك الترجمات إلى أرفف المكتبات لإثراء الحركة الثقافية فى مصر، وكانت بمثابة الكنز الثمين الذى يمد عقول الشباب وقائدى حرس حدود الغد المشرق، بكل العلوم والمعارف التى تخدم الإنسانية جمعاء، وليس فى مصر وحدها. وبالتأكيد كان لإنشاء صرح مركز اللغات والترجمة مردود قوى وفاعل، فكانت الخطوة الثرية بظهور مشروع «المركز القومى للترجمة» لمؤسسه الناقد الأستاذ الدكتور جابر عصفور- وزير الثقافة الأسبق- ولكونه يحمل القناعة نفسها بأهمية الترجمة فى حياة الشعوب، فخرج إلى النور العديد من الكتب المهمة المترجمة فى شتى فروع العلوم الإنسانية.

والآن أطمع وآمل بوصفى أحد أعضاء هيئة التدريس بالأكاديمية، الغيورين على مكانة هذا الصرح فى الساحة العلمية والثقافية، وتفعيلاً لدوره،الذى اضطلع به على مدى خمسة وعشرين عامًا، أن تتضافر الجهود بين منارتى الترجمة هاتين بأن نجد اتفاقا وتعاونا يقومان بينهما بإيمان القائمين عليهما بأهمية الدور المنوط بهما، لتشتعل حركة الترجمة، وليكثر حصادنا الثقافى والمعرفى، وتتخم مكتباتنا بأطايب الكتب وصنوفها، بما يحقق بغية كل المثقفين فحضارة الأمم تقاس بمقدار حراك الترجمة فيها. ليت الحلم يتحقق ويخرج مجسدًا على أرض الواقع العملى، فلا ثقافة بلا تراجم تخدمها وتقوى عودها وتدعمها.لذا فالتحية والثناء واجب محتم تجاه العالمين الجليلين على فطنتهما وماأسساه لخدمة الثقافة والمثقفين المصريين والعرب.