رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الخوف السلبى.. والإيجابى


تحضرنى مقولة د. مصطفى محمود: «إن النفس الإنسانية دغل كثيف.. غابة.. كهف تختبئ فيه الأفاعى.. وفيه أيضاً إلى جوار الأفاعى.. الكنوز واللآلئ النادرة وأنا لا أعتقد بوجود نفوس عادية.. وأعتقد بأن كل نفس موهوبة.. وإنما هى تصبح عادية حينما يغفل صاحبها عن اكتشاف هباتها.

قال جاهين: سهـِّـيـر ليـالى ويـامـا لفيـت وطفـت

وف ليلـه راجـع فى الضـلام قمـت شفت

الخـوف.. كأنـه كلـب سـد الطريق

وكـنـت عـاوز أقتـله.. بس خفـت

وعجبى! فالإنسان: كتلة من اللحم والدم.. والشعور!

والشعور هو ترجمة للمشاعر، التى تتأرجح فى خيالاته وأفكاره صعودًا وهبوطًا طيلة حياته القصيرة على الأرض؛ بين نزعة الحُب والكراهية والطموح والطمع والرغبة والشهرة والمال والمنصب والسلطة والسفر؛ ليظل حائرًا تائهًا بين النفس المطمئنة والنفس الأمارة بالسوء؛ كأنه قطعة الحديد المصهور بين المطرقة والسندان!! ولكن يبقى شعور «الخوف» هو المسيطر على الوجدان وسط كل تلك الأمنيات والتطلعات، فإذا جاز لنا أن نرمز بالألوان لكل مشاعر الإنسان؛ فسيكون «الأحمر» هو رمز الخوف الدائم والمستمر، الذى يبرق فى الخاطر، كأنه ناقوس الخطر الذى لايهدأ ولا يتوقف!

فالخوف شعور قوى ومزعج تجاه خطر ما، إما حقيقى أو خيالي، وهو العدو الأعظم للإنسان؛ والسبب وراء الفشل والمرض والخلل الذى ينتاب العلاقات الإنسانية فى مراحل العمر المختلفة، فالعوامل المسيطرة هى الخوف من الماضي، والمستقبل، والمرض، والشيخوخة، والفقر، وشبح الموت بالضرورة، فالخوف هو «الفكرة الهلامية السوداء» التى تحتل الدماغ وتسيطر عليه!

ناهيك عن الخوف الذى يبثه «الغير» فى النفوس؛ بغية تحقيق أهداف سياسية، أو حزبية، أو اجتماعية، أو اقتصادية؛ للسيطرة على توجيه الإحساس الجمعى وترهيبه؛ والزج بالمجتمع لاعتناق الأفكار التى يريد فرضها عليه، وغالبًا فإن معتنق مباديء بث الخوف والرعب فى أرجاء الوطن؛ لايكون من حملة الأهداف النبيلة التى تخدم الصالح العام؛ ولكنه يعمل على سيطرة فئة ضئيلة منفلتة بعيدًا عن القوانين والتقاليد والأعراف، ويلجأ ـ من عقدة الضآلة ـ إلى تفعيل ونشر الخوف فى عقول وأرواح بقية المجتمع، ليصيبه بما يشبه الشلل فى التفكير والإبداع؛ ويقتل التطلع إلى الارتقاء والسمو؛ ويصبح المجتمع رهينة لكل الأفكار السوداوية الرجعية المناوئة لأهداف الدولة التى تعمل للوصول بالمجتمع إلى الرفاهية المنشودة؛ وتحقيق المرادف للخوف وهو «الأمان» و«الاستقرار» الذى فى أجوائه يتولد الإبداع وزيادة مصادر المعرفة؛ وتهيئة المناخ الذى يحقق كل برامج التنمية.

ولكنى لا أنظر إلى المجتمع بنظارتى السوداء فقط، بل أجنح إلى الرؤية المعتدلة السوية للإضاءة على نوع آخر من أنواع الخوف؛ وهو الخوف الإيجابى ونزعته الفطرية فى روح الإنسان السوى العاقل المتولد من الذات؛ حيث ينأى بصاحبه عن كل الأعمال غير الإنسانية، ويتمتع صاحبه بصحوة الضمير وطهر اليد، وهذا الخوف يتأجج مع الإحساس بالمسئولية تجاه مايسند إلينا منأعمال لابد من إتقانها أو عند القيام بأعباء اجتماعية داخل أسرنا أو مايواجهه الجندى من تضحيات من أجل تراب وطنه على سبيل المثال.هذا الإحساس الذى نستبدل معه كلمة «الخوف» بكلمة سامية رفيعة من روائع لغتنا العظيمة ؛ وهى كلمة «خشية الله»؛ وهو الخوف الراقى الذى كلما ازداد؛ ازدادت معه فرص النجاح والفلاح والتقدم المادى والمعنوى للفرد والمجتمع.

ولعل «تفسير القرطبي» لـ «سورة قريش»؛ تعطينا الدلالة الواضحة الجلية لما كان عليه المجتمع المؤمن الذى يتمتع بخشية الله فى ذاك الزمان.. قال المولى عز وجل عنهم: «لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ﴿١﴾ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ﴿٢﴾ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَـذَا الْبَيْتِ ﴿٣﴾ الَّذِى أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ﴿٤﴾..» و«الإيلاف» فى تفاسير اللغة هو «الإجارة»؛ أى منح الأمان والسلامة والحماية!

ومما لاشك فيه أننا بحاجة ماسة إلى الخوف الإيجابى فى سلوكياتنا الحياتية، ونبذ كل مايؤدى إلى وساوس الخوف السلبى الذى يعيق حركة الزمن والتاريخ والإنسان؛ لنصل إلى كل مانصبو إليه من ارتقاء وسمو لصالح المجتمع، وليصبح العقل الجمعى متمتعًا بكل الأمان والطمأنينة، ويكون إعمال العقل هو الحاكم والمسيطر على كل المقدرات والخيرات فى أرجاء الوطن. فلنقتل الخوف المحطم للهمم من داخلنا مع يقظة ضمائرنا وتفانينا فى العمل حتى نستطيع كسر كل الحواجز والمعوقات النفسية التى تقف حجر عثرة أمام بلوغنا القمم المأمولة التى نبتغيها محققة على أرض الواقع لبلادنا المنهكة من كثرة ماتقاومه من مخططات التقويض والإضعاف المتلاحقة فلنسعفها بشجاعتنا وقهرنا لجميع الصعوبات.

هنا تحضرنى مقولة د. مصطفى محمود: «إن النفس الإنسانية دغل كثيف.. غابة.. كهف تختبئ فيه الأفاعى.. وفيه أيضاً إلى جوار الأفاعى.. الكنوز واللآلئ النادرة وأنا لا أعتقد بوجود نفوس عادية.. وأعتقد بأن كل نفس موهوبة.. وإنما هى تصبح عادية حينما يغفل صاحبها عن اكتشاف هباتها.. ويضل الطريق إليها.. ولا يكلف نفسه مشقة البحث وعناء الاختبار.. إنك لن تدرك مدىخوفك ولا مدى شجاعتك إلا إذا واجهت خطراً حقيقياً ولن تدرك مدى خيرك ومدى شرّك إلا إذا واجهت إغراء حقيقياً». ليتنا نقهر الأخطار الحقيقية التى نحن بصددها فى هذه الآونة بكل مانحمله من جينات الخير والعطاء لنحيا وتحيا مصرنا المحروسة فى سلام وأمان برغم أنف المتربصين!

■ أستاذ العلوم اللغوية ـ أكاديمية الفنون