رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تمثال للأم الشجاعة


خاطرت شابة مصرية بحياتها، لأنها تخيرت بمحض إرادتها أن تتحمل المسئولية عن «الآخرين» حتى لو عرضها ذلك للموت. لم يكن خطيبها ولا أخوها ولا والدها بين الركاب، لكنها مسألة ضمير. يذكرنى ذلك بفيرا زاسلوفسكايا التى اغتالت عمدة بطرسبورج قبل ثورة أكتوبر.

انتهت أزمة الطائرة المصرية التى كانت متجهة من الإسكندرية إلى القاهرة واختطفت إلى قبرص فى 29 مارس. ولاشك أن هناك دروساً أمنية مستفادة مما جرى، إلا أن هناك أيضاً درساً ثقافياً لامعاً ما بين اختطاف الطائرة وعودتها سالمة. درس على صلة وثيقة بعلاقتنا بالتحضر والتنوير والتقدم. فقد وقفت المضيفة المصرية نهال البرقوقى على سلم الطائرة ورفضت أن تتحرك قبل أن تطمئن على أن كل ركاب طائرتها قد استقلوا الأتوبيس بأمان، ثم استدارت ودخلت الطائرة ثانية إلى مختطفها وهى تعلم أو تتصور أنه يرتدى حزاماً ناسفاً قد ينهى حياتها مع غيرها. وفى أول حديث للإعلام أدلت به المضيفة لبرنامج «90 دقيقة» بقناة المحور قالت: «الركاب كانوا أمانة فى رقبتى».

هكذا خاطرت شابة مصرية بحياتها، لأنها تخيرت بمحض إرادتها أن تتحمل المسئولية عن «الآخرين» حتى لو عرضها ذلك للموت. لم يكن خطيبها ولا أخوها ولا والدها بين الركاب، لكنها مسألة ضمير. يذكرنى ذلك بفيرا زاسلوفسكايا التى اغتالت عمدة بطرسبورج قبل ثورة أكتوبر، وسألها القاضى عن السبب فيما فعلته؟ فقالت: «إن العمدة كان يعذب الآخرين فى السجون». فاستفسر منها إن كان لها أخ أو حبيب قد عانى من التعذيب؟ فأجابته قائلة: «كلا. ليس لى أحد عانى من التعذيب. لكن لا ينبغى أن يمر تعذيب الآخرين من دون عقاب»! لم يكن لها دافع شخصى، لكنها قضية الشعور بالآخرين، بالمسئولية عنهم، وبأن الآخرين «أمانة فى رقبتى».

وقد أثبتت نهال البرقوقى أنها ابنة كل تاريخ المرأة المصرية التى طالما هدهدتنا وأطعمتنا وسقتنا وعلمتنا وكبرتنا لأننا «أمانة فى رقبتها». ولم تكن نهال الأولى، فقد سبقتها إلى ذلك شادية سلامة ابنة السويس التى ولدت فى ديسمبر 1952، وعملت مضيفة، وفى نوفمبر 1985 قامت برحلة إلى اليونان على متن طائرة بوينج طراز 737، وأثناء العودة إلى القاهرة نهض أحد الركاب فجأة حاملاً بيده قنبلة واتجه بها إلى كابينة القيادة. وظهر بعده على الفور راكبان آخران بمسدسات وقنابل قاما بجمع جوازات سفر الركاب، وعندما حاول أحد رجال الأمن بالطائرة أن يوقفهم بمسدسه أردوه قتيلاً على الفور، ثم قتلوا خمسة ركاب. فى هذه اللحظة برزت شادية سلامة وأقنعت الإرهابيين أنها ستتعاون معهم شرط عدم المساس بحياة الركاب، وكانت خلال ذلك متمالكة أعصابها بصورة أثارت دهشة زملائها جميعاً.

هبطت الطائرة ليس فى القاهرة لكن فى مالطا، وطالب المختطفون بتزويدها بالوقود. وبرزت شادية مرة أخرى مقترحة على الخاطفين إثبات حسن نواياهم بالإفراج عن النساء، وبالفعل أطلقوا سراح إحدى عشرة سيدة، ثم اختاروا شادية لتكون وسيطاً بينهم وبين سلطات المطار فى عملية تفاوض. خرجت شادية من الطائرة وعندما حاول المسئولون إقناعها بعدم العودة رفضت وقالت عبارة كتلك التى قالتها نهال البرقوقى «مكانى هناك وسط الركاب». وعادت، واستشهدت فى 25 نوفمبر 1985، من دون أن تفكر فى أولادها أو فى شىء، استشهدت لأن «الآخرين» كانوا أمانة فى رقبتها. لمثل هذه المرأة يجب أن يقام تمثال على الطريق إلى المطار، ليس فقط تخليداً لتضحيات المرأة المصرية، ولكن أيضاً لنشر الوعى بأن النساء كالرجال شجاعة وبطولة وفداء. النساء المصريات اللواتى وهبن الوطن المحبة والحنان والصلابة جديرات بذلك التمثال «الأم الشجاعة». تمثال كهذا كفيل بتبديد الكثير من الخرافات الشائعة عن عجز المرأة وعن أن المطبخ والبيت مكانها الوحيد إلى آخر تلك المنظومة الفكرية.

 كاتب وأديب