رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وحدة المجتمع وضمان استقراره


لو تتبعنا الدول التى سبقت دول الشرق الأوسط فى غالبيتها، وتساءلنا لماذا تأخرت دولنا، أو تسير ببطء شديد نحو مواكبة العصر فى غالبية مجالاتها العلمية والتعليمية والفنون والآداب والصناعة، وحتى الزراعة والتجارة، ووسائل الاتصالات والانتقالات حتى وضعنا فى المرتبة الثالثة، أو الأخيرة...

... بمعنى أصح، ولم يبق لنا إلا الأغانى الحماسية وبقايا الفنون الشعبية، وما حفظناه أو توارثناه من بعض الأمل وكثير من الشكوى والبكاء على الماضى العريق، والتاريخ التليد، وشعر الرثاء على الماضى، والتطلع بعيون أصابها الضعف والكلل، وعزائم شبه خائرة وقد اعتراها الملل.

لو سألنا شيوخنا لوجدنا فى عيونهم دمعة، وأصواتهم حشرجة وهم يصفون الماضى برخائه، والسلع المتوفرة لدرجة الشبع، والفائض الذى يكفى الفقير وأبناء وبنات السبيل، وقبل أن تكمل السؤال ينبرى المطبلون والمزمرون والقافزون من الجحور إلى القصور، ومن القاع إلى القمم دون درجات سلم طبيعى، إلا من فائدة التقرب إلى هذا وإلى ذاك، أولئك الذين بيدهم مفاتيح الغنى والفرص سريعة الطيران، حتى انقلب الهرم، وهو بالطبع ليس من أهرامات الجيزة، وإن كانت هى أيضا لم تنج من الهجوم عليها، ولولا استحالة نقلها لنقلت وبيعت كما حدث لذخائر كانت مكنونة، وعن الأيدى الآثمة مصونة، إلا وفى زحمة الأحداث وصلت إليها أياد لا تعرف إلا النهب والسلب حتى امتدت أياديهم إلى ما بقى لنا من فخر وأمجاد، وكأنهم حكموا على التاريخ الذى تبقى لنا، نفتخر به أمام العالم ليقدموا بأيديهم وجبات جاهزة بأرخص الأسعار للهواة أو الطغاة.

وحتى لا تستغرقنى آلام الحاضر ويتيه منى مجد الماضى، والصوت يحذر «لا تبكى على اللبن المسكوب وخذ منه العبر والتطلع إلى الحاضر، ولنتعلم شيئا من التواضع فى غير ذلة، والخروج من حصار الحاضر إلى فسيح المستقبل، ولا مانع أن نأخذ من جيران لنا، وإن بعدت مسافاتهم، ولكن فى زمن التقدم الفضائى لم تعدهناك حواجز لا سيما وقد بات العالم كله حجرة واحدة بها جهاز أو أكثر يكشف ما فى الغرف المغلقة وصولاً إلى عنان السماء، وعبورا إلى كل الحواجز من جبال عالية ومحيطات ثائرة، وليس بالضرورة أن تكلف نفسك بالترحال، فالمعلومات تصلك فى غرفة نومك، أو فى طريق سفرك، فقد ولى زمان الهواتف ذات اليد «المانيفلة» فها هو الهاتف النقال كما أطلق عليه بلغة الغرب «السل فون»، ومنه متناهى الصغر تضعه فى الجيب أو فى اليد أشبه بالساعة، تحادث صديقا من أقصى الأماكن التى تبعد عنك آلاف الأميال، وكأن محدثك يمشى معك أو يجالسك، تراه ويراك، وكل ما تريد أن تريه إياه، فلم يعد شيئاً مخفياً عن العيون، حتى يتشارك الأبناء مع والديهم فى كل شىء إلا الطعام، ومن يدرى بالقادم فى قادم الأيام، لاسيما عندما تبدأ رحلات زيارة القمر أو المعيشة عليه.

أما السؤال الذى - لا شك - يراود ملايين غيرى وقرائى منهم أين العلة وكيف العلاج؟

أما عن الأسباب أو العلل فحدث ولا حرج، أول الأسباب ضعف الانتماء والولاء، ولدينا من الأمثال الكثير الذى لا يحتاج إلى تذكير أو تحليل، ولكنى أشير إلى سبب ربما لم نعره اهتمامنا، ألا وهو شيخوخة الحب، وليس القصد أن الشيوخ المسنين لا يحبون، لا بل هم من علموا الشباب معنى الحب الأسرى، وعشق تراب الأرض الذى نشكو منه كثيرا، لكن فى زحام الدنيا وسرعة الخطوات وضعف العيون، أو قصر النظر كلها عوامل أزكت روح الصراع والرغبة فى الانتقام، إن لم يكن من جارى فمن القريب داخل الأسرة، فمن منا لم تسل عيناه دمعا على أطفال يذبحهم الأبعد أن قضى على الزوجة أى الأم؟

لقد طغت الأنانية على العلاقات الإنسانية، كما أعمى عيون الكثيرين الطمع وجمع المال الكثير، وما كنا نقرأه من قصص، وأمثال لم يعد بعيداً عن مسرح الواقع. كما فعل الأصدقاء الثلاثة ببعضهم طمعا فى الكنز المخبأ حتى ماتوا جميعا وبقى الكنز تحت التراب.

أما آفة الآفات فهو التفكك المجتمعى الذى دعمه التفكك الأسرى، فبعد أن كنا نفتخر بالأسرة الشرقية وتماسكها حتى إلى وقت ليس ببعيد، عندما بدأ مشروع السد فى أسوان، وفتح الباب أمام الشباب للعمل اعترض كثير من الآباء، لا سيما الأمهات كيف يغترب الابن عنا، ولغة تلك الأيام لقمة يابسة على مائدة الأسرة أفضل من أفضل الأطعمة فى أرض غريبة، ولكن هذا الشعار ولى من زمن عندما فتحت الأبواب إلى دول قريبة، حتى باع الآباء ما عندهم ليحققوا رغبة الأبناء فى فرص عمل فى بلاد الجوار لأن المعايير انقلبت، فبعد أن كانت مصر هى الملاذ لم تعد كذلك، وتغيرت الأجواء، ولم تجد الأسرة ما يلبى احتياجات أولادها، ولم تعد فرص العمل متوافرة، وإن توفرت فلا عائد منها يكفى حاجة الأسرة، فليسافر الشباب ومتوسطو الأعمار تاركين الأطفال للجدود أو للأم، بينما يمضى من يستطيع الحصول على فرصة عمل مع ما يلاقونه من اغتراب وعذاب ونظرة دونية فى الكثير من الأماكن، هذا إذا نجوا من أخطار السفر غير الآمن.

وعودة إلى عنوانى وهو وحدة المجتمع وضمان استقراره، فلا وحدة أو تماسك اجتماعى لمجتمع مفكك أسريا، ومشتت من شبابه، بل هذه الحالة المضطربة تزيد الأمر سوءاً، فبدل أن يستفاد من الشباب الذى أصبح كالطيور المهاجرة إما هجرة مكانية وهى نافعة إلى حد معقول،

وللحديث بقية..