رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هل أننا نقول ما لا نفهمه ؟!


يشغلنى موضوع غريب شوية: هل أننا نقول ما لا نفهمه؟ ونردد طول النهار ما لاندرك معناه؟ ونتفق ونتخلف على قضايا ومفاهيم فى حالة ذوبان وسيولة فكرية وغير محددة؟ أظن- وأملى أنى مخطئ- إن هذه «السيولة الفكرية « حقيقة تبدأ من أحاديثنا اليومية الاعتيادية وصولاً إلى الأدب والسياسة والثورة، وأننا لا نتوقف لحظة لنسأل أنفسنا: ما الذى نعنيه على وجه الدقة؟!. وأنت إذا سألت أحدا ماذا نقصد بقولنا المتكرر «عمى حيسى»، أو قولنا «لا تقل لى كانى ومان»» فإنه لن يجد جوابا محدداً، لأننا نفهم المعنى العام للكلام بالتقريب ولا ندركه بدقة. والعمى ««الحيسى» هو العمى الحسى، أى عمى حاسة الرؤية ذاتها الميئوس منه، عمى دائم ليس مؤقتاً أو ناجماً عن انفعال. لكننا حرفنا « حس»» فى النطق لتصبح «حيسى». وعندما نردد «لا تقل لى كانى ولا مانى» نفهم على العموم ونقصد: لا تأخذنى بعيداً إلى عالم الخيال أو شيئاً قريباً من ذلك،إلى أن نعلم أن «كانى ومانى» كلمتان فرعونيتان الأولى بمعنى السمن والثانية بمعنى العسل، فالمقصود بدقة هو: «لا تمنينى بالآمال المع سولة»! وهناك فارق بين الإدراك بالتقريب والإدراك المعنى بشكل محدد، الفارق بين «السيولة الفكرية» للمعانى وتحددها. الأكثر من ذلك أننا ننتقل من الكلام إلى الكتابة ونكتب الكثير من العبارات انطلاقاً من مفهوم تقريبى غير محدد مثل قولنا: «وقع فى حيص بيص» أو «لا فض فوك»؟ نكتبها ولا ندرى معناها بدقة. وتتفاقم المشكلة حين تنتقل السيولة الفكرية إلى مجال الأدب والثقافة، فنكرر كلمة مثل «أوبريت»، ونقصد بها على العموم العمل المسرحى المشتمل على أغنيات! وكل عمل من هذا النوع هو « أوبريت» حتى أصبح المصطلح يطلق على أرخص أنواع الاستعراضات الغنائية. ولدينا أن كل من أدار ظهره للجمهور وأمسك بعصا أمام فرقة عازفين هو «مايسترو» مع أن قيادة الأوركسترا علم خاص له أصوله ودراسته المتخصصة وشهاداته، لكننا نقصد دائماً شيئاً ما عاما، غير محدد، ونقول ما لانفهمه بدقة. ونكرر كثيراً « هذه دراما» نقصد مأساة حتى سرى هذا المفهوم فى الحياة والأحاديث اليومية، مع أن الكلمة لا تعنى ذلك على الإطلاق، فالدراما هى: «كل محاكاة لفعل الإنسان» سواء أكانت تلك المحاكاة فى شكل مأساة أو ملهاة. وفى مجال الوعى السياسى نحن أيضاً نردد الكلمات بمعناها التقريبي، العام، وعلى سبيل المثال نحن نقول الدولة ونقول النظام السياسى بالمعنى ذاته ، وأحياناً نصب غضبنا على الاثنين معاً من دون تمييز، لأن المعانى لدينا فى حالة سيولة فكرية. فالدولة مفهوم أوسع بكثير من « النظام السياسى»، فالدولة بمؤسساتها المختلفة كالجيش والشرطة وغيرهما قد تخدم هذا النظام السياسى أو ذاك. والآن انظر العبارات الأكثر شيوعاً فى حياتنا السياسية مثل «ديمقراطية»و «ليبرالية»و «اشتراكية»! ما الذى نعنيه بالضبط حين نقول عبارات كتلك؟ وهل يمكن للتطور أن يمضى إلى الأمام إذا كنا نشير إلى القضايا والأهداف والآمال على العموم، بشكل تقريبى، سواء فى الحياة اليومية أوفى الفن والسياسة والثورة أيضا؟. هل نحن بحاجة إلى وقفة مع عقولنا أم لغتنا؟ وإذا كنا نقول ما لا نفهمه، فهل ثمة أمل فى أن نفهم شيئاً .. لنقوله؟! أو ندرك ما ننشده لنعبر عنه؟