رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أين الرقابة على الإعلانات؟!


تذكر البشرية قصة أول جريمة قتل حدثت على وجه الأرض، وهى قتل قابيل لأخيه هابيل بفعل النفس الأمارة بالسوء والغيرة والحقد، لأنه استهجن أن يتقبل الله قربان أخيه ويترك قربانه . وبعد ملايين السنين تذكر البشرية جريمة أشد بشاعة ـ من وجهة نظرى ـ من الجريمة الأولى، وهى الجريمة التى تحدث على مرأى ومسمع من العالم المفترض أنه قطع شوطًا طويلاً فى التقدم والتحضر والمدنية بالعلم والتكنولوجيا، وبعد عشرات السنين من هبوط الإنسان على سطح القمر والنجاحات المستمرة لغزو الكواكب، للبحث عن المزيد من الفضاءات البراح لتحقيق الرفاهية لإنسان العصر الذى يضع قدميه على مشارف القرن الحادى والعشربن...

... تطل علينا من شاشات القنوات التليفزيونية أمواجًا متلاحقة من الإعلانات التى يقوم بعرضها العشرات ممن يوحون بأن لديهم علاجات فعالة قادرة على شفاء جميع الأمراض النفسية والعصبية والروحية والروماتيزمية والعضلية والكُلوية والقلبية من أجساد العباد،دونما تصريح من وزارة الصحة مكتوبا بجوار الإعلان للمنتج المعلن عنه وهى العبارة التى كانت تمثل للمشاهد صمام الأمان لما يعرض أمامه فى السابق من منتجات، حيث كانت تمنحه الثقة بأنها آمنة ولاتمثل أى خطورة على صحته وصحة أسرته وذويه .. ويا له من خرف ٍ ممنهج تفتح له الشاشات ذراعيها مقابل المال الذى يتدفق إلى جيوب أصحاب هذه القنوات دون وازع من دينٍ أو عقيدة أو وطنية.

ومع كل الأسف نجد شرائح من المجتمع تُخدع بهذا الزيف والبهتان وتجرى خلف هذه الأوهام والخزعبلات، يدفعهم إلى هذا أن البث يتم عن طريق القنوات الفضائية، واستغلال البث على الأقمار الصناعية الواقعة فى دائرة التردد بالأجواء المصرية، وسيظل التمادى فى هذه الجرائم، طالما لا يجدون القرارات الحازمة التى تمنع كل هذه الإعلانات من الدخول إلى البيوت. فكم من مرضى للسكر سقطوا صرعى على إثر تعاطيهم للأدوية التليفزيونية وإيقافهم للدواء الموصوف لهم من قبل الطبيب المتخصص، وكذا من تعاطوا وصفات إنقاص الوزن أو أدوية التنحيف أو انساقوا وراء هرمونات من شأنها زيادة الكتلة العضلية للرياضيين وهذا على سبيل المثال لا الحصر.

ويأتى انتشار الاعتقاد بهذا الدجل والنصب والإصغاء لتلك الإعلانات القميئة والتأثر بها شكلاً وموضوعًا، نابعًا من أن المجتمع يسوده الفكر الخرافى نتيجة البعد عن الإيمان الحقيقى بصحيح الدين الحنيف، والتاريخ الإسلامى يشير إلى قصة شهيرة حدثت فى عهد الرسول الكريم، حينما توفى ابنه إبراهيم وفى يوم الوفاة نفسه كُسفت الشمس فقال الناس إن الشمس كُسفت لموت إبراهيم حيث كانت عادة الناس أن ينسبوا أى ظاهرة كونية إلى الأساطير والخرافات فإذا كُسفت الشمس يقولون إنه بسبب موت إنسان عظيم، وحينما ذهبوا إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- وأبلغوه بذلك قال لهم ما معناه أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تبارك وتعالى لا يُخسفان لموت أحد ولا لحياته، إذن فهى إعلانات مشبوهة للنصب على المواطنين ليس إلا، خصوصًا أنها تتخذ كل وسيلة ممكنة للاحتيال على المشاهدين، وزيادة فى الحرص على اكتساب ثقة المتابع لتلك المعلومات المدسوسة والخاطئة،يتصدر المشهد فى تقديم الإعلان بعض من المشهورين.

إذن .. لو كان هؤلاء يستطيعون بواسطة هذه المنتجات مجهولة الهوية والمصدر والمكونات مالم يستطعه الأطباء، لوجب على وزارة التعليم العالى إغلاق كليات الطب والصيدلة ومعاهد التمريض والمعاهد الصحية، وسحب كل الدرجات العلمية ممن حصلوا عليها، ويتوجب على الدولة إلغاء وزارة الصحة والسكان، لنكتفى بوجود هؤلاء المدعين، وإعلان دولة شمهورش العظمى التى يحُج إليها الملايين من المرضى للاستشفاء على يد المتاجرين بكل القيم والأعراف الدينية، ويشاركون الله سبحانه وتعالى فى تسيير الكون بحسب أهوائهم وأمزجتهم بغية تغييب العقول والعودة بنا إلى ما قبل القرون الوسطى، وديدنهم استلاب الأموال ممن يمنحونهم الثقة على أمل العلاج والاستشفاء .

ونتساءل بوازع من ضمائرنا وواجبنا تجاه الوطن وعقول البشر: أين دور الرقابة الفعالة على كل هذا الركام من سيل هذه السموم التى تنفثها أجهزة الإعلام المرئى والمسموع فى عروق المجتمع، الأمر الذى سيؤدى ـ حتمًا ـ إلى فقدان المناعة وانهيار القدرة على استخدام العقل والعلم، والاستناد فى حل مشاكل المجتمع إلى هؤلاء، لأن عصر «سليمان الحكيم « قد ولَّى إلى غير رجعة، ولن يأتينا « الهُدْهُدْ « بالخبر اليقين !

هل نجد من يُنصت إلى صرختنا والالتفات إلى هذه الكارثة التى تفاقمت واستشرت فى كل القنوات الرسمية وغير الرسمية، والتى سيكون لها التأثير السيىء على عقول وصحة أطفالنا ومواطنينا وأجيالنا القادمة .. أم أننا نصرخ فى صحراء خاوية ؟واتقاء لمقولة فولتير: من يستطع اقناعك بتصديق الخرافات.. يستطع اقناعك بارتكاب «جرائم وحشية».. وليكن لنا فى قوله تعالى العبرة والحكمة:

«الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ، وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ» «سورة الشعراء» مع ألأخذ بالأسباب العلمية والعقلية.