رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشرف فياض.. إعدام شاعر


فى 17 نوفمبر الحالى أصدرت محكمة سعودية حكماً بإعدام الشاعر أشرف فياض على أساس أن سطوراً مما جاء فى ديوانه «التعليمات بالداخل» الصادر فى لبنان 2008 تعد دعوة للإلحاد ومساساً بالذات الإلهية. اللجنة التى قرأت وفسرت لجنة «شرعية» لا علاقة لها بالأدب وتفسيره، فهى قراءة تتجاهل أن لكل علم ولكل فن قواعد فى التعبير تواكبها قواعد فى التفسير أيضاً، ومن ثم فإن القراءة الدينية للنصوص الأدبية تشبه أن نقرأ الفيزياء على أساس بحور الشعر العربى! من ناحية أخرى فقد توارت منذ زمن أخلاقيات الحكم بالإعدام على شخص- أياً كان- لمجرد أن له رأياً أو معتقداً يخالف ماهو سائد أو شائع.

ويشهد التاريخ على أن مصر قد حسمت هذه القضية منذ أن نشر اسماعيل عام 1936 مقاله «لماذا أنا ملحد»، وما سجن ولا صدر ضده حكم بالإعدام واكتفى الآخرون بإشهار موقفهم مما سجله! لقد بدأت مثل هذه الأحكام فجر الفكر الإنسانى بمحاكمة سقراط عام 339 قبل الميلاد بتهمة إفساد عقول الشباب، وكان شيخاً فى السبعين حين أجبروه على تجرع السم، وانقضى نحو ألفى عام، لتدرك البشرية خلالها أن مصادرة الكتب وسجن الأدباء وإعدامهم بلا جدوى، وأن كل ألوان القمع بل والموت لم تمنع بيتاً واحداً من الشعر من التحليق عبر العصور.

لا أحد يذكر الآن اسماً واحداً لأحد القضاة الذين حاكموا جوستاف فلوبير حينما نشر روايته «مدام بوفارى»، لكن البشرية كلها تقرأ «مدام بوفارى» وتشعر بالامتنان للكاتب الفرنسى العظيم. ولن يتذكر أحد بعد عشر سنوات اسماً من أسماء الذين صادروا «أولاد حارتنا» بينما ستظل البشرية تلهج باسم نجيب محفوظ. لا أحد يعرف الآن، ولا أحد يذكر من الذى أصدر أوامره بقتل الشاعر الإسبانى العظيم لوركا.

لكن البشرية كلها مازالت تتغنى بأبياته: «أجمل الأيام تلك التى لم تأت بعد». لا أحد يعرف ولا أحد يذكر من الذى حاكم شارلى شابلن فى الخمسينيات أثناء الحملة المكارثية على الفنانين، لكن البشرية كلها مازالت تضحك وتسعد بعبقرية شابلن. الحكم بإعدام شاعر هو حكم بامتداد حياة الشعر والفكر وقدرة هذه الحياة على التجدد. ويأتى ذلك الحكم المخجل فى وقت تتصاعد فيه الحملات لوقف أحكام الإعدام من حيث المبدأ، وهى الدعوة التى بدأت عام 1955 بحملة شنها الكاتب آرثر كوستلر مطالباً بإلغاء تلك العقوبة، ومن بعده ألبير كامو الأديب العالمى بسلسلة مقالات كانت سبباً من أسباب فوزه بنوبل.

واعتبر ألبير كامو على حد قوله أنه: «عندما يبارك القسيس حكم الإعدام يكون قد خرج عن دينه وحتى عن إنسانيته». وتظل عقوبة الإعدام إجراء مخجلاً لأنها طالما استخدمت سياسيا، وأشهر مثال على ذلك مهزلة المحاكمة الأمريكية لصدام حسين. كما أن مرتكب الجريمة فرد، أما الذين يحكمون فهم هيئة اجتماعية ولا يجوز لهيئة اجتماعية أن ترد على جريمة بجريمة! لهذا ألغيت هذه العقوبة فى أربع وخمسين دولة نهائياً، كما أن سبعاً وعشرين دولة لم تطبقها فى السنوات الأخيرة، وهناك خمس عشرة دولة تطبقها فقط فى ظل الطوارئ. الحرية والحياة لأشرف فياض، والحرية لكل رأى حتى وإن اختلفت معه.