رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مطر على الإسكندرية


لم أعشق مدينة مصرية قدر ما عشقت الإسكندرية. أحببتها قبل أن أراها مع سماعى أغنية فيروز «شط إسكندرية يا شط الهوى»، وأحببتها عندما علمت أن نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وغيرهما من الأدباء كانوا يقضون الصيف هناك. وعندما زرتها شعرت أننى أحس الحرية! أحسها لأول مرة فى حياتى متدفقة من الهواء المشبع برائحة البحر، والسماء المتسعة، والشوارع الصغيرة، وذلك العطر السرى من تاريخ طويل. وهبتنى الإسكندرية – من بين جميع المدن- الشعور بالحرية! ومع غرق المدينة تحت الأمطار شعرت أننى أمسيت سجيناً داخل زنزانة ضيقة، كإنما قد طمرت المياه جمال الدنيا ورقتها، وطمرت حريتى. المشاهد والأخبار التى نشرتها الصحف والتليفزيونات مؤلمة. البشر الذين يتشبثون بكل ثرواتهم الصغيرة التى راكموها بعرق العمر وهى تفلت من بين أياديهم، وجوه الذين ماتوا فجأة داخل الأنفاق وفى الشوارع وفى وسائل المواصلات، الخسائر المالية. قلت لنفسى: الإسكندرية وحدها، وليس لها أحد سوى تاريخها الطويل وذكرياتها.

غمرت المياه كل شىء، وغسلت المدينة من الأكاذيب لتظهر لنا بقوة أنه ليس لدى الحكومة خطة فى أى مجال. لقد قامت انتفاضة يناير 2011 لمواجهة كل ما راكمه نظام مبارك من إهمال وجشع ونهب، وليس لمواصلة كل ذلك. فإن كانت لدينا تركة ثلاثين عاماً من التدهور يصبح السؤال: كيف نواجهها؟!. بهذا الصدد ثمة عبارة جميلة للكاتب الفرنسى الشهير «أنطوان دو سانت- إيكسوبيرى» يقول فيها: «هدف بلا خطة لا يزيد عن كونه مجرد أمنية». وكل أهداف يناير : عيش، حرية، عدالة اجتماعية، تظل مجرد أمنيات أو أوهام ما لم تكن هناك خطط معلنة فى كل مجال لكيفية تحقيق ذلك. وإقالة محافظ الإسكندرية كانت واجبة، لكنها لا تحل شيئاً كما أنها لا تمس صلب الموضوع.

وعلى سبيل المثال فإن محافظ القاهرة جدير هو الآخر بالإقالة بعد صمته الطويل على القمامة التى حولت قاهرة الحضارة إلى حجارة وقذارة. المسألة أن لدينا مرافق مهملة على مدى زمنى طويل، وليست مرافق الصرف الصحى فى الإسكندرية وحدها. لدينا قطاع القطارات التى تفاجئنا من وقت لآخر بحوادث مرعبة. وقطاع الصحة. وقطاع التعليم الذى تطحنه الكوارث التعليمية بل والأخلاقية من كل ناحية من دون أن يحرك أحد ساكنا. لدينا قطاع الثقافة، والاقتصاد.

وحتى السياحة التى تمر بأزمة شديدة. فى كل ذلك لا تسمع شيئاً من مسئول واحد عن خطة محددة، معلنة بشفافية، مرتبطة بآجال بعينها للتنفيذ والتحقيق. وليس لدى اعتراض على المقولة الشائعة «كل شىء يحتاج إلى وقت»، لكن ذلك الوقت يجب أن ينقضى فى ظل خطة معلنة، لكى لا يكون زمن يصب فى زمن، ثم زمن آخر، من دون خطوة للأمام. لقد غسلت الأمطار التى غمرت الإسكندرية الأكاذيب، وأظهرت على جدران المدينة والبيوت ذلك العجز عن حل المشكلات وإصلاح المرافق بشكل جذرى وغياب الخطة فى أى مجال. سأحترم أى محافظ يعلن خطة لتطوير مدينته، أما مواصلة الصمت إلى حين وقوع الكوارث فليست وظيفة يتقاضى المرء أجراً عنها.