رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"شيرمان".. رسالة أوباما للعرب التي فضحت مسرحية الاتفاق النووي الإيراني

صورة كاريكاتورية
صورة كاريكاتورية من جريدة العرب اللندنية لـ"ويندي شيرمان"

في علمِ إدارةِ الأزمات يأتي اختيار الشخص المناسب ضمن حلقةِ المُفاوَضات بمثابة الخطوة الأولى باتِّجاه الحل، أو بصورةٍ أُخرى هو النقطةُ الأولى التي ستبدأ تتحلحل من خلالِها كلّ العُقَدِ التي تتشابكُ كلَّما طالَت الأزمة وامتدَّت جولاتُها.

مؤخَّراً شهدَ العالمُ بكثيرٍ من القلق طيَّ صفحةِ الخلاف النووي بين واشنطن وطهران بعد سلسلةٍ من الأشواط الأساسية والإضافيَّةِ التي امتدَّت سنوات بين أخذٍ ورَد، ذهاباً وإيَّاباً نحو جنيف السويسرية بصيغةٍ سريَّةٍ ومُعلنَة، إلى أن تمَّ التوصلُ إلى صيغةٍ للحل النهائي تضمن إرضاءَ كلِّ الأطراف.

ورغمَ تلكَ الموجة الإعلامية التي هلَّلَ بها كلُّ طرفٍ في إعلان الانتصار فإنَّهُ لا خاسِرَ في ساحةِ الميدان، هذا على الأقل ما يُمكِن فهمُهُ من تصريحات الجميع، خلال تلك المفاوضات التي شدَّ فيها الأميركي لجام طهران مراراً مُهدِّداً بإعلان فشلِ الاتِّفاق، كان الجميعُ يتعاملُ مع أطراف المفاوضاتِ على أنَّها كُتَلٌ وأحلافٌ تجمعُ بينها صيغةٌ من صيغ المستقبَل الذي لم تنكشِف معالمَهُ نظراً لإخفاء بنودٍ كثيرةٍ من الاتفاق الذي فسَّرَهُ كلٌّ على هواه.


الاعتزال بعد المباراة الأخيرة

تلكَ المسيرةُ الطويلةُ الشاقَّةُ، ما إن انتهَت حتى عادَ جميعُ أعضاءِ الوفودِ إلى أشغالِهِم في مؤسسات دُوَلِهِم، وحدَها امرأةٌ واحدةٌ تردَّد اسمها مراراً بكثيرٍ من الشُبُهات، حسمَت قرارَها منذ الشوط الأوَّل حينَ قالَت، ما إن تنتهي المفاوضات سأعلِن اعتزالي العمل السياسي، وفي لحظاتِ تعثُّر الاتِّفاق في أيَّامِهِ الأخيرة من شهر يونيو حزيران الماضي، همَسَت في أُذُنِ وزير الخارجية الأميركي جون كيري موضِحةً له نيَّتَها وعزمها المُضيَّ بعيداً في حال طلَبَ رئيس الإدارة الأميركية من وفد بلادِهِ العودة إلى واشنطن دون إتمام الاتِّفاق، لكنَّ الحمولة الزائدةَ من ملفّات البحث والمناقشات أثمَرَت نتيجة فسَّرها الجميعُ على هواه، والثابتَ أمامنا أنَّ الحلفَ الجديد سيكون لهُ نتائجَهُ التي ستظهرُ عاجلاً أم آجلاً في منطقةِ الشرق الأوسط عموماً.

حزَمَت حقائبَها وعادت إلى عائلَتِها لتُمضي سنواتها القادمة بعيداً عن الدبلوماسيَّة والسياسة بعد أن شاركت في إزالةِ ما تعتقدهُ واشنطن أخطاراً تمسُّ أمنها القومي، تلك الأخطار تمثَّلَت في فترةٍ ما في برنامج كوريا الشمالية النووي ولاحقاً في أحلام إيران النووية.

ملف كوريا الشمالية النووي

ويندي شيرمان، الأميركية النيويوركية المُنتميَةِ إلى أحد أكبرِ العائلات اليهودية التي سكنَت في بلاد العام سام باكراً، حيثُ وُلِدَت في نيويورك عقِبَ إعلان قيام إسرائيل على أرض فلسطين التاريخية عام 1948، ليكون عام 1949 عامَها الذي شهِد نشاطاً منقطِعَ النظير للحركة الصهيونية في الولايات الأميركية بين مانهاتن ونيويورك كما تذكر غولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل في مذكِّراتِها.

في بالتيمور درَست مراحلَها الأولى قبل أن تنتقلَ إلى بوسطن حيثُ أنهت في جامعةِ المدينة تحصيلَها العلمي في علم الاجتماع عام 1971، ولتُكمِلَ بعد ذلكَ دراسةَ الماجستير بذات الاختصاص في جامعةِ ماريلاند عام 1976، قبلَ أن تنطلِقَ في العمل العام كمساعدة اجتماعية، اهتماماتُها بحلِّ المشاكل العالقة في حيٍّ صغير أخذت تتوسَّعُ من خلال ارتقائِها بالأعمال الإدارية في منظَّماتٍ مُختلفة.

مع بداية التسعينات، دخلت شيرمان وزارة الخارجية الأميركية في منصب مساعد الوزير الأميركي وارن كريستوفر للشؤون التشريعية، ذلك المنصِبُ الذي استمرت فيه ثلاث سنوات أكسبَها قدرات على المناورة السياسية لتحقيق الأهداف وفقَ خُطَطٍ مرسومةٍ ومدروسة بما يتناسب مع المصالح.

تجربَتُها تلك أعادَتها إلى الواجهة في إدارة الرئيس بيل كلينتون الذي كلَّفَها بالاتصال بكوريا الشمالية للنقاش حول برنامج بيونغ يانغ النووي، وبعد جولاتٍ سريَّةٍ تارةً ومُعلَنَة أحياناً وافقَ نظام كوريا الشمالية في موقفٍ مُفاجئٍ في حينها على تدمير ترسانتهِ النووية وصواريخَ بلادِه القادرةِ على تهديد أراضي الولايات المتحدة الأميركية.

تلكَ الجولاتُ التي شابَها كثيرٌ من الغموض استطاعت خلالها شيرمان استنهاض كلّ الحلقات المُفرَغة في كوريا الشمالية لتحقيق مآربِ واشنطن، تلكَ الجهود التي انتقدَها وزير الخارجية الأميركي الأسبق جيمس بيكر حيثُ اعتبرَها مكافأة أميركية للنظام الحاكم في بيونغ يانغ، واصفاً شيرمان بالمركزية في القرارات.

استطاعت شيرمان ترويضَ طموح كوريا الشمالية لصالحِ واشنطن، تلكَ الخطوةُ جعلَت منها امرأة المهمَّات المستحيلة في الإدارات الأميركية المتعاقبة، لتكون في العام 2009 مستشارةً في البيت الأبيض، ولتتولَّى فيما بعد مهمَّتَها كمساعدةٍ للشؤون السياسية لوزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، مستمرة في هذا المنصب في عهدِ أوباما إلى جانب الوزير الجديد جون كيري حيثُ صارت مسؤولةً عن المفاوضات مع إيران بشأنِ مشروعِها النووي.


الاتجاه نحو إيران

إيران بطموحاتِها المتعددة تشكِّلُ مصدرَ قلق لكثيرٍ من الأطراف في الشرق والغرب على حدٍّ سواء، وبالرغم من هذه الحال إلاّ أنَّ شيرمان عملت جاهدةً لكسبِ ثقةِ الإيرانيين من خلال تقديم التطمينات لهم، فالهدَفُ واضح أمامها، ذلك الهدف يدور في فلَكِ البرنامج النووي ولا يتعدّاهُ أميركياً إلى التفكير بإسقاط النظام الحاكم في طهران أو استبدالِه وتغييره، هذه المعادلةُ الواضحة في مكاشفتِها بين طرفي التفاوض جعلت شيرمان مصدَر ثقةٍ لدى طهران، رغمَ أن العلاقةَ بينهما شابَها كثيرٌ من التوتُّرِ خلال تراشقِ التصريحات المتناقضة إلاّ أنَّ شيرمان بقدرتها على المناورة احتفظت بشعرةٍ تربطُ مصالحَ بلادَها فقط بكل حلقات التفاوض.

أمام هذا المشهد كان هناك قلق إسرائيلي مُعلَن من المفاوضات الجارية في ذلك الوقت وقد تعاظَمَ ذلك القلق واضحاً في تصريحات تل أبيب، عقِبَ الإعلان عن الاتفاق بين واشنطن وطهران، وبالرغمِ من إدراك البيت الأبيض لحساسية الموقف وخطوتهُ التي اعتبرها كثيرٌ من المتابعين أنَّها إيجابية بتعيين شيرمان كمسؤولةٍ عن المفاوضات في إشارةِ تطمين بالغة الوضوح لإسرائيل بأنَّ الحليف القوي لن يُغيِّرَ مواقفَهُ، فمن خلال شيرمان كان يتم تمرير كل مراحل التفاوض لإدارة تل أبيب من خلال لقاءاتِها الدورية مع يوسي كوهين مستشار الأمن القومي الإسرائيلي، حتى ذهبَت بعض المصادر إلى القول إنَّ بنود الاتفاق تمّت هندستُها في تل أبيب قبل إعلانِها.

أكثر الشخصيات اليهودية تأثيرا

بالطبع لا بدَّ من الإقرار أنَّهُ من الذكاء بمكان اختيار ويندي شيرمان لهكذا مهمَّة في ظلِّ الأزمات التي تعصِفُ بالشرق عموماً والقلق الإسرائيلي المُتنامي، ذلك الاختيار الذي أتى نتيجة علاقات ويندي القوية مع اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدَّة.

الصحافةُ الإسرائيلية ممثَّلَةً بالجيورزاليم بوست نقلت عن ويندي شيرمان لقاءَها مع مركز العمل الديني للإصلاح اليهودي في أميركا التي قالت فيه، إنها تفتخرُ أنَّها من المجتمع اليهودي في الولايات المتحدة، وأنَّهُ حان الوقتُ للتوقُّفُ عن التشكيك في علاقةِ واشنطن بالقيادة الإسرائيلية، تلكَ الصحيفة التي وضعت شيرمان في قائمةِ أكثر الشخصيات اليهودية تأثيراً في العالم أعادت إلى الأذهان في محاولةٍ لطمأنةِ الرأي العام الإسرائيلي جهودَ ويندي شيرمان في لوزان حيثُ توصَّلَ الأوروبيون والإيرانيون لاتفاق بخصوص البرنامج النووي لطهران.

الدفع بويندي شيرمان إلى واجهةِ الملف النووي الإيراني يحمل في طياتِهِ رسالةً واضحةً لمن يستطيعُ قراءةَ الإشارات السياسية، تلك الرسالةُ موجَّهةً للعرب الذين وقفوا في بادئ الأمر مشدوهين أمام الاتِّفاق مُصابين بحالةٍ من الإرباك عبَّر عنها الأمير بندر بن سلطان في مقالِهِ الذي نُشرَ في الديلي ستار باللغة الإنكليزية والذي ختمهُ بأنَّ على أصدقاء أميركا أن يخافوها كأعدائها تماماً.

في إعادةِ تركيب المشهد كلِّهِ، يُمكنُ القول إنَّ الإدارة الأميركية تسير بخطواتٍ أخيرة من عمر ولاية أوباما، وتلك الخطوات أرادَ البيتُ الأبيضُ من خلالِها طمأنةَ اللوبي اليهودي أوّلاً في الداخل الأميركي وإرسال إشاراتٍ إيجابيةً للمجتمع الإسرائيلي بأنَّ الحليف القويَّ يختارُ واحداً يرتدي عباءةً أميركية بقالبٍ يهودي ليمنحَ الشرعيَّةَ لاتِّفاقٍ يقعُ في مصلحةِ إسرائيل في المقام الأوَّل كما قالت شيرمان في أحد تصريحاتها.


الإنجاز الأخير لأوباما

ومع إغلاق ملف إيران النووي، وبقاء المنطقةِ العربية تحتَ احتمالات الأرض غير الثابتة في ظلِّ كل المآسي التي تعصِفُ بها في أقاليمَ باتت على حافَّةِ الانفجار والإرهاب معاً، ستغادرُ ويندي شيرمان مهامّها كاملةً لتعيشَ مع زوجِها الصحفي السابق بروس ستوكس، بهدوء من استطاعَ تقديمَ الخدمةِ الأهم لبلاده، فقد اختتمت مسيرَتَها في العمل العام سياسياً ودبلوماسياً وسط تصفيق مجتمعها الذي تنفَّسَ الصعداء بعد إتمام الاتِّفاق الذي يُمكِنُ قراءَتَهُ على أكثر من وجه، ستغادِرُ لتعودَ إلى حياتِها الطبيعية بعد أن خاضت جولاتٍ مطوَّلةً في مدنٍ وبلدان عديدة حيثُ قامت فلسفتُها في إدارةِ الأزمات بين واشنطن والأطراف المتعاقبة على مبدأ واحد هو إما الاتِّفاقُ على كلِّ شيءٍ أو لا اتِّفاق.

ويندي شيرمان سياسيَّةٌ تحقق الهدَفَ الأخير في الوقت الضائعِ من ولايةِ باراك أوباما، الذي سيحملُ في حقيبتِهِ من البيت الأبيض تفاصيل الاتصالات السرية التي لا يعلمها أحد حول الاتفاق الأخير الذي أدارتهُ في جنيف، امرأةٌ عمِلت بكلِّ إخلاصٍ لخدمةِ بلادها وغادرت بكثيرٍ من التساؤلات حول ما حدثَ بين واشنطن وتل أبيب وطهران وجنيف.