رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يوم من عمرى

هبة البدهلى
هبة البدهلى

يتابع ككل يوم جاره الضرير فى السكن المقابل لسكنه من خلال نافذته ونافذة جاره، ربما لتعاطفه معه كأقصى ما يمكنه فعله، وربما لتعجّبه من قدرته على الحركة بسلاسة، وتمكن، رغم مرات الاصطدام القليلة التى يتعرض لها بعد تغيير أماكن الأشياء دون قصد ممن تقوم بتنظيف المنزل.

يجلس مكانه ليتصفح كتابًا بأصابعه، يمرر أصابعه فتلحقه المتعة كلما مر بسطر يسقى روحه بما يشتهى، فيرى فى كتابه ما لا يرى فى واقعه. يأخذه من عالمه صوت طقطقة آتية من خلفه، وكأنها صوت أقدام تروح وتجىء اقترابًا، وابتعادًا، يتحول من حالة المتعة إلى حالة الخوف.

الظلام مخيف جدًا، كلما ظن أنه تأقلم معه غدر به، وأعاده إلى حيث كانت بدايته، يطبق على أنفاسه.

لا أحد بالمكان غيرى.. يقولها لنفسه، ولكنها تزيد من خوفه، فمن ذا الذى يلاحقه إذن فى سكونه، ويستغل عتمته ويملأ المكان والقلب بضجيج القلق؟!

لا يترك مكانه، ينظر بأذنيه إلى كل مكان حوله، ينادى.. من أنت؟ من أنت؟ أخبرنى لماذا تقتحم خصوصيتى؟.. لِمَ تداهمنى وقت متعتى؟.. لا تظن أننى بلا نظر، أنا أراك، أنت الآن خلفى مباشرة..

ها قد ابتعدت، لماذا تلجأ إلى الهرب كلما شعرت بوجودك؟.. هذا جيد، اذهب ولا تعد ثانية، فعودك قاسٍ ولا مبرر له، بماذا يعود عليك وجودك هنا؟! تجىء كل يوم منذ فقدت بصرى فى صغرى، تفعل ذلك كلما بقيت وحدى.

أنا منذ سنوات وحدى ولا ترحم وحدتى. بل أنت دائمًا لا ترحم وحدتى، مات أبى، ومن بعده أمى، أما إخوتى ففى بيوتهم، وبقيت بمفردى، ولا ترحم؟ أخبرنى بماذا تريد، أنت شيطان إذن، يفعل ما يؤذى البشر، الشر لأجل الشر، فأنا لم أؤذك بحياتى، أو أنت شيطانة أحبتنى، واستغلت فقدانى بصرى، وتستمتعين بوجودك إلى جوارى، تلفتين نظرى، أقصد سمعى، لأننى فاقد للنظر كما تعلمين، تطرقين على الحائط أو الباب، وتطقطقين بحذائك أو ما يشبهه فى عالمك على أرض المكان، لألتفت إليك.

تهزينى فى فراشى لأستيقظ، ويصيبنى الأرق لأبقى معك، ولكن ما المتعة فى ذلك ما دمت لا أحدثك ولا تحدثينى، لا أسكنك ولا تسكنينى، لا تشبعينى ولا أشبعك، ولا حتى أستطيع تخيلك، فما الداعى من وجودك، أنتِ تخيفينى، إن كنت حقًا أحببتنى فلا تكونى سببًا فى خوفى.. أرجوك.

صمت، وسكون، إذن هى تسمع حديث نفسى، أو هو يسمع. يعود إلى قراءته من جديد، يحرك أصابعه بانسيابية محاولًا نسيان ما قد كان.

يسرح فى سكونه الذى بدا له عبر النافذتين، يفكر فى سبب ذلك، ثم ينتبه لكونه عاد لتمرير أصابعه مرة أخرى على أوراق الكتاب، ثم تركه الكتاب بعد وقت ليس بقصير.

لا يعرف حقيقة ما الذى يجذبه لمتابعة يومياته، وما الذى يبهره بحياته لعلها إرادته التى تجلت أمامه، تحديه لظروفه، قدرته على تحمل مشقات الحياة وحده، يقرأ ويكتب، ويبدل ملابسه ويعلقها على الشماعة، وفى الدولاب يضع ملابسه النظيفة، والمتسخة يضعها بالغسالة، ويضع المسحوق ويضبط مفاتيحها، وحينما تنتهى من مهمتها يأخذ الغسيل فينشره فى الشرفة على المنشر المخصص لذلك.

يصنع الشاى، والطعام بلا خوف من ماء مغلى أو زيت ساخن. يستخدم عصاه التى لا يتكئ عليها، ولكنها تعينه على استكشاف طريقه.

يراه لا يخاف الظلمة، ولا توجعه الوحدة، يرى بلا نظر، يظن أن عقله يحتوى على أشياء تفتقدها عقول غيره من ذوى الأنظار، أو أن تلابيبه تختلف عن تلابيب عقول غيره منهم.

يتابع ذهابه للحمام، وإغلاقه النافذة الصغيرة قبل أن يتجرد من ملابسه، ووضعه قبل ذلك زجاجة الشامبو على حافة البانيو.

يتركه لعالمه، ويعود لعالمه هو، فيذهب ليصنع كوبًا من القهوة، يتذكر رسوبه بالثانوية العامة فى ذات السنة التى كان بها جاره من أوائل الثانوية على مستوى الجمهورية. يتذكر جيدًا حصول جاره على منحة دراسية بعدها، ثم عرض للعمل بعد تخرجه.

تلتسع أصابعه أثناء صبه القهوة فى الكوب، تفقد القهوة وجهها الذى يشتهى، لا بأس، يصب ما بقى فى رضا.

لم يكن جاره صديقًا له يومًا، فقد كانت دراسة جاره أزهرية على عكس دراسته فى مدارس الحكومة التابعة لوزارة التربية والتعليم.

كان جاره ضريرًا، وكان بصيرًا، لم يكن يلعب معه لأنه كان يظن أنه لن يفهم طريقته وأصدقاءه فى اللعب.. لن يركض وراءهم أو منهم، ولن يرى من أين جاءوا وأين اختبأوا من الأساس، ولن يعرف كيف يختبئ حينما يكون عليه ذلك.. لن يدفع كرات البلى بإصبعه ليطرق بلية أخرى بعينها.. لن يلعب الحجلة لأنه لن يرى مخطوطها.

كان يبكى حينما يضايقه طفل بمقولة «القطة العامية، سرقت قميصى»، وكان أبوه ينهر الطفل الذى يقول ذلك، ثم يتحدث إليه فى حنو لائمًا إياه لومًا أبويًا، ثم سائلًا من ضايقه: هل كنت تقبل أن تسمع هذا إن كنت فى وضعه؟! ويطلب منه أن يطيب خاطر ابنه، فيفعل، ثم يذهب لإكمال ما بدأ من لعب، ويطلب من ابنه ألا يبالى بما حدث.

لكنه كان يراقبه فى الطفولة، فيتوقف عن اللعب، ليتابع عودته مع والده ومروره من أمامه دون أن يراه، غير تارك إياه يغيب عن ناظريه إلا حينما يصل لمدخل عمارته رفقة والده، ويتابع مروره أيضًا مع أمه فى أحايين أخرى، وتمسكها بيده جيدًا، وحرصها على متابعة قدميه بناظريها كى لا يوقعه حجر، ولا يزحلقه طين، ولا يبلل حذاءه ماء راكد فى الطريق، كأنه ملك متوج، ثم لا يعود إلى لعبه إلا حينما يعود هو إلى مسكنه حتى لو كان سيخسر دوره فى لعبته.