رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف تتفادى الناس أو تهرب فيهم؟

كنا ننزل من قرانا إلى القاهرة فى بداية انشغالنا بالعمل العام والكتابة ونحن على يقين أننا سنلتقى أساتذتنا الذين حببونا فى الكتابة فى المقهى، كنا نحمل على أكتافنا براءة البدايات وحماقاتها أيضًا، فى بداية الثمانينيات من القرن الماضى كانت القاهرة تستعد لالتقاط أنفاسها مع مرحلة جديدة فى الحكم. 

وعاد المثقفون الذين تركوا مصر فى السبعينيات لأسباب سياسية، وتدريجيًا انتهت القطيعة العربية التى سببتها اتفاقية كامب ديفيد، كان يوجد إحساس ما بأننا على موعد مع عصر جديد؛ اهتمت الدولة بالمجلات الثقافية، واختارت رؤساء تحرير مشهودًا لهم بالكفاءة، مثل الدكتور عبدالقادر القط، ازدهرت المعارض الفنية، وبزغ نجم وجوه جديدة فى الرسم والشعر والكتابة والنقد والمسرح والسينما والموسيقى. 

وكانت مقاهى وسط المدينة عامرة بالأفكار والحكايات والبهجة والمعارك، مقهى ريش بالطبع كان عامرًا بالكبار، يذهب إليه لويس عوض ويوسف إدريس ونعمان عاشور وأمل دنقل ويحيى الطاهر عبدالله وإبراهيم منصور وإبراهيم أصلان وفتحى سعيد ومحمد مهران السيد وعونى هيكل وعشرات من القامات الأدبية الفكرية. 

فى شارع عماد الدين يجلس إلى مقهى فينكس إبراهيم فتحى وصنع الله إبراهيم على رأس طاولة يتحدث الجميع فيها فى الكتابة والسياسة، الأستاذ نجيب محفوظ كان يذهب يوميًا فى الصباح الباكر إلى مقهى على بابا فى التحرير، ومرة كل أسبوع فى كازينو قصر النيل لملاقاة أصدقائه ومريديه. 

فى مقهى سوق الحميدية بباب اللوق ينتظر فاروق عبدالقادر محمد البساطى وتوفيق عبدالرحمن، وفى مقهى الندوة الثقافية المجاور يجلس جمال الغيطانى مع أصدقائه، أما مقهى زهرة البستان فكان المكان الوحيد الذى نذهب إليه لنلتقى الجميع، احتفظ هذا المقهى بخصوصية فريدة، هى تجمع المثقفين لا شك، ولكنه لم تكن له هالة الأماكن الأخرى، يكفى أن يأتى أديب من الأقاليم ويجلس، وبمجرد تعارفه على كاتب أو شاعر من رواد المكان، يصبح من الرواد، كنا نشعر بأننا عائلة واحدة، تأخذنا أقدامنا إلى هناك لأسباب غامضة، نلتقى ضيوفنا هناك، ونستقبل بريدنا هناك، ونترك رقم تليفونه لمن يريدنا. 

ووصل الأمر إلى أننا بدأنا ننصب سرادقات العزاء لمن يرحل منّا، لا توجد مزايا عظيمة فى المكان، ولكن عظمته فى بساطته وحالة الارتجال التى تحكم إيقاعه، والحكايات الجانبية التى تشارك فيها المثقفون مع الرواد العاديين والقهوجية والحرفيين وماسحى الأحذية وبعض الأجانب الذين وقعوا فى غرام المكان. تذكرت تلك الأيام وأنا أشارك الأحد الماضى فى ندوة حول هذه المقاهى، ضمن «مهرجان الجامعة الأمريكية الثقافى فى التحرير». 

هذه المقاهى شاهدة على عمر كل منّا، شاهدة على لحظات الإحباط وخيبة الأمل، وشاهدة أيضًا على الأمل ولحظات الفرح النادرة، عشنا فيها أكثر مما عشنا فى بيوتنا، واستقبلنا الهزائم معًا، وانتصرنا على الكوابيس معًا، صدام حسين بغزوه الغاشم الكويت، ثم الترحيب بدخول الدبابات الأمريكية أحدث شرخًا كبيرًا فى تركيبة هذه المقاهى، حدث انقسام حقيقى، وبدأت موجات العنف والعصبية تجتاحها. 

انتقلت بعد ذلك إلى أماكن السهر والصحف، خصوصًا بعد الامتيازات التى حصل عليها الذين روجوا للرواية الغربية التى مهدت لتدمير العراق، مقهى زهرة البستان كان الأقل تضررًا، لأنه رغم تجمع معظم المثقفين فيه، إلا أنه كان يسمح بالتعددية والاختلاف كأن الخلاف داخل أسرة.

فى هذه المرحلة كانت هناك دوائر من مثقفى النخبة «كما يعتقدون فى أنفسهم»، يتعاملون باستعلاء مع رواد المقهى، ويتهموننا بالشعبوية والسطحية والمراهقة الفكرية، ويتندرون على الحكايات التى تحكى عنا، وبعضهم كتب فى هذا، بعد عشرين عامًا أصبح هؤلاء من الرواد، لأنهم اكتشفوا أنه لا يدعى أكثر من كونه مقهى بسيطًا يتوسط الناس ويمنحهم الشاى والدفء والطمأنينة وسط مدينة شرسة لا ترحم، وفى النهاية كما أردد دائمًا ليس فقط المكان الذى ألتقى فيه أصدقائى، أو أذهب إليه للعب الطاولة، ولكنه جزء عزيز من عمرى، لأنه الحضن الدافئ للغرباء، وضابط الإيقاع فى لحن الحياة الذى لم يكتمل، هو مكان الاستحمام بالألفة، ليس حالة ثقافية مفتعلة كما يتصور المتحذلقون الذين يذهبون إليه بين الحين والآخر. 

المقهى هو الأوقات كلها، هو الاستثمار فى معرفة الناس والإصغاء إلى أحلامهم البسيطة العظيمة، لكل مقهى بصمة على الروح، كل منطقة لها طعمها، لكل زمن مقهى، ولكل فصل من فصول السنة، تتعلم هناك تفادى الناس أو الهروب فيهم، المقهى لا مفاتيح له، ولهذا نذهب، يوجد مكان فى العالم يرحب بك فى كل أحوالك، لا يستغرب وجودك، ولا يغلق الباب فى وجهك، أنت الآن لست فى حاجة إلى البحث عن مكان آخر.. أنت فى بيتك.. تتحسر على غياب الحكايات والإيماءات والمعارك الجانبية وإيقاع «القواشيط» والزهر بين أشخاص يتركون همومهم خارج الطاولة.. تتحسر على العمر الذى انكسر على البلاط.