رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثلاث قصص قصيرة جدًا

حياتى

القطار الذى فاتنى أخذت أجرى خلفه، كل ما كنت أتمناه أن ألحق به فى المحطة التالية، عندما وصلت إلى الرصيف الصحيح، كان القطار قد بدأ ثانية فى التحرك.. للحظة يعترينى اليأس، لكننى ألتقط أنفاسى وأستعيد رباطة جأشى، فأخرج مسرعة، أستقل حافلة، تاكسى، موتوسيكل، عربة نقل بضائع.. وفى كل المرات أفوته لسبب قهرى.. ظل القطار يخايلنى، وفى بعض الأحيان كنت أتحرك محاذية له، حينما تكون السكة الحديد موازية للطريق العام، أشير للركاب، يعتقدون أننى فى سباق، فيهللون، ويشجعون، فقط سائق القطار هو الوحيد الذى لم ينتبه لى.. حقًا وصلت وجهتى، لكننى أبدًا لم أركب القطار الذى أردت.

الخروج للضوء

نظرت من الشرفة من خلف الستائر المفتوحة، أمسكتها بحذر ونظرت بطرف عين بنصف وجه، بلا روح، وكل مخاوفى تكبلنى وتسرح فى دمى تدفعه لعينى، لرأسى، فتتسارع الخبطات فى نصف رأسى العلوى، فيما فقد قلبى السيطرة على انبساط وانقباض عضلاته، فى عين اليقين من مخاوفى.. لمحته ممددًا على عشب الحديقة، وظل شجرة الكاساديا يغطى ساقه العارية، الشعر الأسود يغطى الساق، لكنه لا يمنع انعكاس وهج الشمس، فى شورت كحلى وتيشيرت أبيض كأنه بحار باسط ذراعيه على شراع أخضر، والنظارة السوداء تعكس أشعة الشمس، فراشات تطير حوله، كل ألوان الطيف تتخايل على وجهه، هل أصرخ؟ هل أحذره؟

وضعه الأفقى المستقيم، استرخاء عضلات فخديه، انبساط ذراعيه، أصابع يديه المفرودة لأعلى كأنها تتلقى المنح. تنشد العطايا، أخبرنى بأن كل شىء قد تم، لا أريد أن أصدق، لكن القطار الذى خرج عن القضبان لن يوقفه شىء، انزلق جسدى مع الستارة القطيفة السوداء، استندت للحائط، ضايقنى خشب إطار باب الشرفة وزجاجه المصنفر، تكومت على الأرض.

انتبهت للرسالة التى أعطتنى الخادمة، فتحتها: «لا تحزنى.. منذ وعيت حياتى وأنا أفعل كل شىء من أجلك. سامحينى.. اتركينى أفعل شيئًا من أجلى». 

إسبراريا

فى مدينة «إسبراريا» كانت الملائكة تسير فى الشوارع ببهائها السماوى، فيستحى التراب أن يرتفع لمقدمة حذاء طفل، وكانت أوراق الأشجار الجافة تتساقط فقط عندما يمر الكناسون ويلقون عليها تحية الصباح، أما الشمس فلم تكن تظهر إلا عندما تشعر بأن أجساد الناس قد أخذت كفايتها من النوم، وكان القمر يصير بدرًا عندما يجد رجلًا عائدًا من عمله آخر الليل، ويمسى هلالًا عندما تتشابك أيادى العشاق، وكان الماء لا يعرف طعم الكدر، والكلاب تحفر بأناقة تحت الأشجار كى تقضى القطط حاجتها، وكان الأطفال يتعلمون أبجديات المحبة فى الحضانة، وكان كل رجل لامرأة، وكل امرأة لرجل.. فى الليالى الصيفية كانت النجوم تنزل من سمائها وتلعب مع الصغار الاستغماية، وفى الشتاء كانت تدثر من لا مأوى له. 

فى «إسبراريا»، لم تكن هناك تصنيفات مثل فقير أو غنى، وأبيض أو أسود، ولكن كلٌ ميسرٌ لما خلق له، وكانت سنابل القمح تعطى لصاحب الأرض حقه وللأجير حقه، وتترك بعضًا من سنابلها لعابرى السبيل؛ بشر، حمائم، فئران. وإذا لم يأخذ أحدهم نصيبه من البقرة، أعطته له فى الغد جبنًا، وكان الآباء يمنحون الأطفال محبة غير مشروطة بنسب، وكانت الأوقات تختزن للصغار حكمة تمنحهم إياها حين يقفون عند مفترق طرق، والدولة تمنح العجائز معاشًا استثنائيًا كى يتصدقوا به.