رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حكايات الطب والأطباء

كان لوالدى صديق مستعرب يدعى إيجور، يتردد علينا من وقت لآخر، أثناء إقامتنا فى روسيا. حينذاك لم أكن قد حصلت بعد على شهادة الدكتوراه، لكن أبى- كعادة المصريين فى استباق الحصول على الشهادات- كان ينادينى «دكتور»، وحدث أن زارنا ذات يوم إيجور، وجلسنا معه فى الصالة، ثم خرج والدى إلى حجرة أخرى لسبب ما، فقال لى إيجور: «يا دكتور أحمد.. أنا أشعر بألم فى هذه المنطقة حين أنام كل يوم»، وأشار بإصبعه إلى موضع فى بطنه. فكرت قليلًا، ثم تحكمت فى روح المزاح، فقلت له بجدية: تمدد على الأريكة لو سمحت، وبكل براءة فرد إيجور بدنه، فرفعت القميص وأخذت أطرق أضلعه وبطنه وأسأل: هل تشعر بألم؟. وعاد والدى فى هذه اللحظة، فوقف مذهولًا، يسأل: إيه ده يا إيجور؟. قال له المستعرب الطيب وهو يعتدل: «دكتور أحمد بيكشف علىَّ» ! صاح أبى بغيظ: «دكتور إيه ونيلة إيه؟ ده بتاع لغة، لغة وأدب بس». أيًا كان فإن تلك الحادثة تكشف عن ولعى بالطب، الذى يشبه العشق الخائب، والذى لازمنى طيلة حياتى، ولم أكن أود أن أكون سوى طبيب، لولا زيارة خاطفة للمشرحة قبل إنهاء الثانوية العامة سحقت كل تطلع علمى عندى. وبذلك الصدد أعتقد أن والدى نفسه كان من المتطلعين إلى الطب، لأننى أذكر ونحن فى القاهرة أنه تلقى ذات مرة مكالمة من شخص ما، وكان جالسًا إلى مكتبه وأنا أمامه، ووجدت والدى ينصح من يحدثه بدواء معين، ويقول له: «خذ هذا المضاد الحيوى، وخذ معه مشروبًا للسعال اسمه كذا، وسوف تتحسن، وفى كل الأحوال اتصل بى بعد ثلاثة أيام». وسألته: «من هذا؟». قال: يوسف إدريس تعبان شوية! مت من الضحك، وأنا أقول له: «لكن يوسف إدريس طبيب»! قال: «ولا طبيب ولا حاجة ده أديب». من هنا يتضح أن الميل للطب وراثى فى عائلتنا. الأكثر من ذلك أننى تعويضًا عن نقص العلوم الطبية فى حياتى تزوجت طبيبة بالمصادفة، حين شعرت باختناق فى موسكو وتوجهت إلى مستشفى، فقادونى إلى طبيبة شابة جميلة، حتى إننى من جمالها شككت أن تكون طبيبة، وسألت المرافق: «أهذه طبيبة؟». قال: «أى والله طبيبة، بس هى صغيرة فى السن شوية وحلوة». والتقينا بعد ذلك شهورًا، حتى انتهى الأمر بالزواج بين العلم والأدب. وبطبيعة الحال تعرفت فى حياتى على أطباء كثيرين، كان منهم د. محمد محروس، رحمه الله، والدكتور علاء عوض، أطال الله فى عمره، ومن التردد والكشف عند هذين العظيمين أدركت للمرة الأولى أن الطب مثل الفن موهبة، وأنه لا تقوم له قائمة بالعلم فحسب، إذ لا بد من الموهبة. وفى الطب مثلما فى الأدب، ترى الحقائق وصور الأشعة، لكن عليك بالحدس وحده أن تهتدى إلى الحقيقة. أكتب ذلك بمناسبة يوم مر، من دون أن أشير إليه، أعنى يوم الطبيب الذى بدأ الاحتفال به فى ١٨ مارس عام ١٩٧٩، ذكرى إنشاء أول مدرسة للطب فى مصر سنة ١٨٢٨ فى منطقة أبوزعبل، ثم نقلت لاحقًا إلى قصر العينى، وظلت أول مدرسة للطب فى الشرق الأوسط. أكتب إجلالًا لدور الأطباء الذين ضحى البعض منهم بحياته عندما اجتاحت الكورونا مصر، وإجلالًا لأرواح الأطباء الشهداء فى غزة، الذين فاق عددهم الخمسمائة طبيب.