رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

انحصار

آية طنطاوى
آية طنطاوى

فى الصباح كتبت قصيدة جديدة بعد شهور انقضت دون كتابة حرف، نهرتنى أمى لأنه ليس يومًا مناسبًا للكتابة أو لعمل أى شىء آخر سوى الاستعداد لفرح ابن خالى. لم أخبرها بأننى كتبت قصيدة عن الموت، وبأننى سقطت فى القصيدة ميتة، ومددت يدى لأوارى جثتى فى التراب وأكملت إجراءات الدفن وحدى تمامًا فى صحراء واسعة لا اسم لها ولا عنوان، لم أخبرها بأن الشعراء مثلى يجيدون الموت بقدر ما يجيدون الكتابة، ولم أخبرها بأننى تركت القصيدة دون شطرٍ أخير.

فى المساء وقفنا بكامل زينتنا، أمى وأختى وأنا، أمام البوابة الكبرى لقاعات الأفراح النيلية نسأل العاملين عن مكان القاعة التى يقام فيها زفاف مهدى زين العابدين. من بعيد التقطتنا عينا خالى، الذى وقف يستقبل الحضور بعد أن دخل العريس وعروسه القاعة، وبدآ الفقرة الراقصة. لم يكن وجهه مبتهجًا كما المتوقع فى يوم فرح ابنه، وخمنت أنه الإنهاك لا أكثر. سلم علينا ودخل بنا إلى بوابة القاعة، وبعد انتهاء فقرة السلامات العائلية الحارة، جلسنا نلتقط الأنفاس وبدأنا مسح القاعة بالنظر، نصف القاعة لعائلة العريس، الذى هو ابن خالنا الأكبر، والنصف الآخر لعائلة العروس التى هى فرع آخر ممتد من عائلتنا، لكننا لا نعرف عنهم الكثير، فقط أسماءهم والقليل عن وظائفهم وأماكن سكنهم الجديدة. 

تفرقت عائلتنا بعد أن غادروا بيوتهم فى الحى فى هجرة جماعية هدمت جذور العائلة قبل عشرين عامًا أو يزيد، لم يغادروا المدينة، بل سكنوا فى أحياء على حدود القاهرة وفى قلب صحارى بعيدة. كانت عائلتنا الأقرب للعريس تجلس فى طاولات دائرية متقاربة، خالاتى وأخوالى وأبناؤهم والأحفاد، ورغم أننا نجتمع افتراضيًا على الجروبات الخاصة؛ إلا أننا لا نلتقى إلا فى مناسبات الفرح أو الحزن، وكان الحزن قد غاب عنا لسنوات، وكان فرح ابن خالى مهدى عهدًا جديدًا لأفراح أحفاد العائلة. 

غابت أختى فى الزحام تلهو وترقص مع بنات العائلة، كعادتها تجيد الاندماج مع الناس حتى لو كانوا غرباء، وبقيت أنا ملتصقة إلى جوار أمى لم أفارقها، ورغم صوت الأغانى العالى والزغاريد المتلاحقة، بدأت خالتى الكبرى حديثًا انتظرت قدوم أمى لتفتحه، خرج صوتها جريحًا، تبدلت معه ملامحها وتلونت فانتبهنا لها فى توجس. الخبر طازج، بدأ من حلم، زارت جدتى خالى زين العابدين، أبوالعريس الواقف على بوابة القاعة، كانت صامتة فى الحلم ومتجهمة ترتدى ثوبًا أسود كئيبًا، حاول أن يداعبها بالكلام فلم تتجاوب ومدت له يدها وأعطته حفنة من التراب الناعم، شعر بالخطر، وعندما تقدم نحوها ليسألها ما هذا لم يجد لها أثرًا. كان الحلم ليلة أمس، استيقظ بعده قبل الفجر بقلب منقبض، لم ينتظر أن يمضى الوقت، فأخذ سيارته وطار إلى المقابر ليزورها، وصل مع شروق الشمس، قرأ لها الفاتحة وأغلق عليه باب الحوش، واستسلم لرغبته الملحة فى فتح حجرة النساء ليطل عليها، كانت الحجرة مؤصدة بقفل حديدى ضخم، وعندما أخرج مفتاحه وفتحه ضربه الفزع، لم يجد جثمانها، وكانت جدتنا آخر النساء اللاتى فُتح لهن حوش العائلة.

لمعت عيون خالاتى وأخوالى وتلفتوا لبعضهم فى رعب، وضربت خالاتى على أفخاذهن ووضعت خالتى الكبرى رأسها بين كفيها، وبقيت أمى صامتة ولم تنجح فى حبس دموعها التى ذابت فوق وجهها المغطى بالماكياج. لم يكن الصمت يشبه مشاعرى المرتبكة فى تلك اللحظة، ولا يشبه الضجيج حولنا. لم أغفل شعورى بأن خالتى تعمدت بذلك الخبر أن تفسد علينا بهجة الفرح ولم ترجئه لليوم التالى، استشعرت ذلك عندما قالت إن الميت إذا أعطى الحى شيئًا فأخذه فهى إشارة إلى موت قريب. كانت مصيبتنا فى هذه اللحظة أكبر من الفرح والمنام والموت المحتمل، أين ذهبت جدتى بعد أن نامت فى قبرها عشرة أعوام وليلة؟ 

لم ترغب جدتى أن تُدفن فى قبر عائلة جدى، يذكرنا خالى الأصغر بما كان، عندما تغافلوا رغبتها وامتثلوا لوصية جدى الذى أصر قبل موته أن يُدفن إلى جواره زوجتاه. كانت جدتى زوجة جدى الثانية، وكان العداء بينها وبين زوجته الأولى فى حياتهما مميتًا. قالت خالتى الصغرى بصوت مكتوم إن جدتى حتمًا لم تجد الراحة فى الموت بجوار زوجة زوجها وأخواته اللاتى لم يحببنها فى حياتها، وأنها عنيدة بما يكفى لتختفى دون اكتراث لحرمة الموت. سكتت خالاتى وأمى وهززن رءوسهن مسلمات بذلك التأويل، بينما أنا فى حيرة وغيظ مما يقال. كسرت صمتى وبادرت بالكلام، وقلت إن هذه خرافات لا محل لذكرها الآن، وإن فى الأمر خطأ ما، وإن خالى ربما خدعه نظره فى عتمة القبر، وإن جدتى مؤكد ممددة فى مكانها، فأين يعقل أن تروح؟ ألقت خالاتى نظراتهن الحزينة فى وجهى وكأنهن لا يفهمن ما أقول، وتمسكن برواية خالتى الكبرى، جدتى تخبرنا رسالة بموت قريب، وأنها غاضبة لدرجة أن تغادر قبرها، كما تهدد أم أبناءها بترك البيت وتفعل. 

صدق أخوالى، أيضًا، وبادرت خالتى الكبرى بأنها ستحيك كفنًا جديدًا، وأن الحل أن يتحدثوا مع أخوالهم وأبنائهم ليفتحوا القبر الذى ودت جدتى أن تُدفن فيه، واتفقوا على أن يتركوا الرجال يبحثون عن جدتى بين العظم والتراب. سألتها أمى إن كان فتح القبر مرة أخرى نذير شؤم لقدوم ما نخشاه، فأخبرتها خالتى بانكسار أنه القدر لا هروب منه ولا مناص. همست لأمى لعلها تنصت بعقلها، وقلت لها ربما فى الأمر لبس، ربما ارتباك خالى من أثر الحلم جعله يخطئ التقدير ولم ينتبه. وأن عظام جدتى حتمًا ممددة فى مكانها بحجرة النساء، وأن البحث عن عظام جدتى بين بقية العظام محض عبث، بل الجنون عينه. عقد الحزن لسان أمى فلم ترد، وتماهت مع إخوتها فى الحزن. 

بينما الفرح مستمر، ونصف القاعة الآخر يهتز من صوت الأغانى والرقص، امتد الخبر إلى الطاولات على الجانب الآخر، جدتى اختفت وقبل اختفائها أنبأتنا بموت قريب. تحولت طاولتنا إلى سرادق عزاء يتوافد إليه بقية أفراد العائلة من كبار وأحفاد فيعرفوا بالخبر الذى حل على العقول كالصاعقة تشطرها نصفين، وخالى لم يبرح مكانه على بوابة القاعة يستقبل المعازيم الذين تبدلت فرحتهم إلى حزن قبل أن يصلوا إلى نصف القاعة، حيث نجلس. ولشدة حزنى وهياج مشاعرى تخيلت الإضاءة تخفت من فوق رءوسنا، بينما نصف القاعة يلمع ويتوهج فوق أهل العروس المنهمكين فى الرقص والتهليل، وكانت أختى لا تزال بينهم فى الجانب الآخر ترقص دون اهتمام.

انتفضت من مكانى وذهبت لها متوعدة وعزمت أن أفرغ غضبى فيها. لم أتفادى زحام القاعة بسهولة، والوصول إلى منتصف حلقة الرقص مهمة صعبة دفعتنى للاصطدام القوى بكل من أمر بجوارهم، لم يكونوا غرباء، إنهم أفراد عائلتنا، من نعرفهم ولا نعرفهم، يجمعنا شَبه كبير فى الملامح ولون البشرة والشعر والعيون الواسعة، وفرقتنا المسافات والزمن وضغائن فى القلب ورثناها مع الأموال والذهب والبيوت. احتك جسدى بأجسادهم، تلاقت نظراتنا وابتساماتنا فى خجل، اخترقت الحشد الكبير والضوء يضرب فى عينى، أغمضتها والضوء لا يزال يتوهج، وفى لحظة دامت لثوانٍ رأيت نفسى بينهم شبه عارية يلفنى قماش أبيض وجسدى ممددًا يتحلل ويذوب ويستحيل عظمًا. ورأيتهم من حولى عظامًا ممددة على أرض الحجرة ذاتها التى تحمل اسم العائلة، نعاشر الموت ونتأبده، رعبتنى الفكرة، ولم أفلت من شعور خانق حاصرنى بأننى لن أنجح مثلها فى الفرار من حجرة النساء بحوش العائلة لأتمدد فى قصيدة.

تطريز عباءة الأرضالفنانة الإسبانية-ريميديوس فارو ( ١٩٠٨-١٩٦٣)