رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جودر والحنين للحكايا

منذ بداية عرض مسلسل جودر، وفي أولى حلقاته يثبت أنه عمل مميز وشديد التميز، ربما لاعتباره العمل الخيالي الوحيد وسط هذا الكم من الدراما الجادة، وأن كان بعضها كوميديا، لكن المشاهدين جوعى لهذا اللون من الفنتازيا والحكايات الشعبية، فهناك فرق كبير بينها وألف ليلة وليلة،  
الفرق بين حكايات زلف ليلة وليلة والقصص الشعبية يكمن في محتواها وغرضها، فزلف ليلة تمزج الخيال بالواقع في سياق عالمي أوسع بينما تركز القصص الشعبية بشكل أكبر على الأساطير والأمثال التي تعكس التجارب الحياتية والقيم الثقافية للمجتمعات المحلية، وغير ذلك تتميز حكايات ألف ليلة وليلة بالبنية السردية المعقدة وشخصياتها المتداخلة في حين أن القصص الشعبية تتسم بالبساطة والمباشرة، جودر يجمع هذين العالمين ببراعة مقدمًا عملًا فنيًا يستلهم الروح الأسطورية للجكايات الشعبية والعمق الثقافي لحكايات ألف ليلة وليلة، مبهر هذا الدمج الذي يوفر للمشاهدين تجربة عامرة تنقلهم إلى عوالم مليئة بالمغامرات، التي تبدو مقنعة اعتمادًا على تقنيات عالية الجودة؛ للوصول إلى هذا المستوي الرفيع من المؤثرات البصرية التي تنشئ عالمًا خياليًا كاملًا، يعد إنجازًا هامًا في المجال الفني إذ يظهر ما يمكن زن تحققه الإنتاجات المصرية من مستويات عالمية في الجودة والإبداع.

يدور مسلسل جودر حول حياة تاجر أقمشة يدعي عمر المصري ينحب ثلاثة أولاد سالم وسليم وجودر الأخ المختلف عن أخويه قلبًا وقالبًا في أسلوب الحياة والأخلاقيات والسلوك فحياة جودر معقدة تدور في صراع مع عائلة شمعون الذين يطلقون على أنفسهم الشمعيين وهم إخوة من السحرة الأشرار ممتهنو السحر الأسود، فيريدون الحصول على كنز الحكيم شمردل، وذلك بمساعدة جودر أو بمعني الأصح إجباره على مساعدتهم. 
ياسر جلال المعروف بقدراتة الفنية العالية يقدم أداء متميزا يفصل فيه بين الشخصيتين، سواء شهريار أو جودر؛ ليثبت تنوعه وقدرته على لعب شخصيات معقدة وإلى جانبه نور اللبنانية المرأة التي تنجذب لها كلما ازدادت شرًاـ بالفعل تلعب دور شواهي، رئيسة العائلة الشمعية الشريرة ببراعة ولا تقل عنها براعة ياسمين رئيس في دور شهرزاد العصرية التي احتفظت بتراث الحكي بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد وتختم ليلتها مع صياح الديك.
حتي مسرور/ أحمد فتحي أصبح له دور ومشاهد يؤديها بشيء من الكوميديا بخلاف الشكل الكلاسيكي المتعارف عليه في أعمال ألف ليلة وليلة قديمًا السياف حليق الرأس يمتلك حاجبين كثيفين ويثير الرعب لرؤيته، والتغيير هذا جراء سيناريو الكاتب أنور عبد المغيث المحكم ذي الطابع الشعبي والأفكار البسيطة، ومن ذكاء عبد المؤلف أنه استخدم لغة حوار بالعامية المصرية، بل والشعبية بمعني أدق، بالإضافة إلى سرعة الأحداث والمفاجآت المتتالية بدون مط وتطويل، رغم احتمال الحكاية إلى أن تطول الحلقة إلا أن عبد المغيث قد أشفق على المشاهدين الذين لم ينتهوا من مشاهدة مسلسلات الصراعات العائلية المطولة وصنع حلقات قصيرة لحكايات ملهمة تدفع المشاهدين لانتظار باقي الحكاية مثلما يفعل شهريار كل ليلة. 
يظهر توافق المخرج إسلام خيري مع الموسيقار شادي مؤنس بين الصورة والموسيقي وتوافقهما في التصاعد والرهافة، روعة الموسيقي تقابل روعة الصورة والمؤثرات البصرية من خدع وألوان في كادرات كاللوحات الفنية، استلهم مؤنس صاحب المدرسة الموسيقية الفريدة موسيقي المسلسل من ألف ليلة وليلة الكلاسيكية تأليف الروسي نيكولاي كورساكوف والآلات الشرقية بالدمج مع أوركسترا غربية لصنع هذا المزيج المبهر من موسيقى ملحمية يمكنك سماعها بحواسك الخمسة. 
جودر يستعد ليكون علامة فارقة في الدراما الرمضانية لعام 2024، بقصته الممتلئة بالإثارة والمغامرة وطاقم عمله المتألق في دعوة مفتوحة للمشاهدين بالانغماس في ألم الخيال وفي الوقت نفسه تأمل في معاني الحياة العميقة فجودر ليس مجرد عمل ترفيهي، بل هو مرأة تعكس الثقافة العربية الغنية وتروي قصص تلامس القلب والروح.