رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كبسولة فلسفية| محمد جادالله يكتب: «التهكم والتوليد».. المنهج السقراطي نحو المعرفة الصادقة

محمد جاد الله
محمد جاد الله

تناولنا خلال كبسولة سابقة تحت عنوان «المنهج الفلسفي» بيان الطريق الذي تسير وفقه الفلسفة، ونعني بهذا الطريق أي الوسيلة التي يستطيع الفيلسوف أن يضع من خلالها بنود فلسفته، فجاء عرضنا ببيان بعض الأمثلة؛ من خلال توضيح مفهوم المنهج كما استخدمه سقراط وأفلاطون والرواقيين. إلا أننا سنتعرض هذه المرة لبيان المنهج السقراطي، ولكن بشيء من التفصيل، وذلك لتفنيد تلك الطريقة السقراطية الجدلية، التي أودت بحياة صاحبها وأصبح شهيد الفلسفة.

كانت طريقته فريدة حقًا تقوم على الجدل وتتوسل بتصنع الجهل، فكان سقراط Σωκράτης (470 ق.م – 399 ق.م) يخرج إلى الأسواق والطرقات يعرك الناس ويمتحن نفسه إن كان أحكم منهم، وكان محدثوه من أدعياء العلم، وكان سقراط يبدأ فيسألهم عما يعنونه بالخير والشر، أو الشجاعة والجبن، أو العدل والظلم، وكان يطلب من محدثه إجابة جامعة، وتعريفًا مانعًا. ويبرهن على أنه ما كان يعرف شيئًا عن الموضوع الذي تصدى له. وكان سقراط يفكر أنه كان يعلم جهل خصمه، أو أنه يقصد إلى اتهامه بالجهل، ويدعي أن ما يطرحه على خصمه من أسئلة هدفها توليدي أي جلاء الحقيقة التي يعرفها الخصم وحده دون غيره. والسؤال الآن، هل كان سقراط يتبع في فعله هذا نهج بعينه؟

بالطبع عزيزي القارئ، اعتمد سقراط على منهج اسماه بـ «التهكم والتوليد»، وهو المنهج الجديد الذي قدمه للفلسفة آنذاك، من اجل هداية العقل وتحريره من المعتقدات الوهمية والغير صحيحة. فكان يقصد بـ «التهكم» (باليونانية: ἔλεγχος) السؤال مع تصنع الجهل، وغرضه في هذا تخليص العقول من المعتقدات السفسطائية السابقة، وإعداد هذه العقول لقبول المعرفة الحقيقة والصادقة. وبعبارة واحدة «التهكم» هو طرح معنى ينفي المعنى الأول ويناقضه.

بمعنى ادعاء سقراط الجهل مع من يحاوره، ويتظاهر بالتسليم بأقوال محدثيه، ثم يلقي الأسئلة ويعرض الشكوك، بحيث ينتقل من أقوالهم إلى أقوال لازمة منها، ولكنهم لا يسلمونها فيوقعهم في التناقض. فيبدو والحال هذه للمحاور بأن سقراط يسخر منه بهذه الطريقة غير المباشرة، ومن ثم كان سقراط يكشف لمحاورة جهله على الرغم من أنه يدعي في البداية أنه من أهل الاختصاص والعلم بالموضوع محل الحوار. وعندما ينتهي سقراط من تطهير نفس خصمه من المعارف المشوهة، يبدأ مرحلة جديدة وهي التوليد. وماذا يُقصد بالتوليد؟

صديقي القارئ يقصد سقراط بـ «التوليد» (باليونانية: maieutikh) فن استخراج الأفكار من العقول؛ حيث يجعل المحاور يكتشف بنفسه الحقائق التي يختزنها في ذاته (نفسه) وطريقة الحوار هذه مبنية على إشعار النفس بما تشتمل عليه المعرفة الفطرية، ويتم بادعاء الجهل بالشيء لأجل استخلاص الأفكار والوقوف عليها، فسقراط يقوم بطرح أسئلة حوارية لإثارة صفة «التذكر» على أساس ما يراه كلّ من سقراط وأفلاطون بأن المعرفة «تذكر» والخلاصة يحصل بواسطة ما مر بنا بعملية توليد الأفكار.

أي أن سقراط يحاول هنا خلال منهجه في «التوليد» مساعدة محدثيه بالأسئلة والاعتراضات مرتبة ترتيبًا منطقيًا على الوصول إلى الحقيقة التي أقروا أنهم يجهلونها، فيصلون إليها وهم لا يشعرون، ويحسبون أنهم استكشفوها بأنفسهم. فكان يهدف إلى إثبات وجهة نظر الخصم لا دحضها، ومن أجل ذلك لقبوه بالماكر، وفي عبارة واحدة، التوليد هو استخراج الحق من النفس. كما كان سقراط يقول في هذا المعنى مفاخرًا لنفسه، أنه يحترف صناعة أمه، وكانت قابلة، إلا أنه يولد نفوس الرجال.

واخيرًا، لم يكن سقراط يقصد من مذهبه هذا تحقيق النصر في سباق المناظرة، بل لكي يفضي إلى فهم حقيقي بتطهير الشخص من المعتقدات الباطلة الذي يتعرض لها. فكان لابد ألا يكون البحث الفلسفي الممارس عبر هذا النهج منافسه بين خصوم، بل بحث تعاوني قائم على البحث والفهم، وهذا عين ما قصده أفلاطون خلال محاوراته. وفي عبارة واحدة استطاع سقراط وبجدارة أن يقدم لنا مثالًا للبحث النقدي التعاوني الذي يتم عبر الكلمة المنطوقة، فظل هذا النهج النموذج الأمثل للفلسفة.