رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أبواب القرآن (7).. وظيفة الفقيه أن يبحث عن حلول لمشاكل الناس

جريدة الدستور

توقفنا مع الدكتور محمد سالم أبوعاصى، أستاذ التفسير بجامعة الأزهر، عند ما اعتبره جريمة يرتكبها بعض المفسرين ممن ينتمون إلى الجماعات المتطرفة، وهى إخراج النصوص القرآنية من بابها وإنزالها إلى باب آخر، وهو ما أضر بالقرآن وبالإسلام وبحياة المسلمين، وضرب لنا مثلًا بذلك بآية «لهو الحديث» وآية «وجاهدهم به جهادًا كبيرًا». 

■ الباز: فى هذا الإطار هل يمكن أن نقابل أمثلة أخرى حدث فيها ما حدث مع «لهو الحديث» و«جاهدهم به جهادًا كبيرًا»؟ 

- أبوعاصى: ما حدث أن بعض المفسرين يخرجون النص القرآنى عن سياقه، بعضهم يفعل ذلك بجهالة، مثل من يفسر «اذهب إلى فرعون إنه طغى» بطغيان القلب، وهو ليس صحيحًا، وهناك من يفسر «ويوم نحشر من كل أمة فوجًا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون» مثل الطبرسى، يقول إن الآية دليل على الإمام المختفى فى السرداب حتى يوم خروجه. 

■ الباز: هذا التفسير يتناسب مع بعض الطوائف الذين ينتظرون الإمام المخبوء. 

- أبوعاصى: هذا صحيح، وعندما يخرج هناك طائفة تؤيده وتحتفل به، وهناك طائفة أخرى ضده سينتقم منها، تقول لهم هذه الآية تتحدث عن الحشر، فيقولون لك إن الحشر نوعان، حشر يوم القيامة وحشر فى الحياة الدنيا، سياق الآيات لا علاقة له بهذا الكلام بالطبع، وهذا خروج عن السياق. 

وعندنا قوله تعالى «ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك»، فالتفسير للمعنى الظاهر يقول إنه السب والأذى كما فعلت الأقوام مع أنبيائهم من قبل، لكن الدكتورة عائشة عبدالرحمن فسرت «ما يقال لك» بأنه الوحى، الذى جاءك هو نفسه الوحى الذى جاء لمن قبلك. 

لا أستطيع أن أقول إن هذا تفسير بعيد، لكنه وجه من الاحتمال، وإن كان سياق القرآن لا يدل على خلافه، لكن أيضًا سياق القرآن يقول بأننا عندما نزن الأمور من الناحية المنطقية العقلية يمكن أن يكون هذا المعنى موجودًا، فكما أوحى إلى موسى وعيسى أوحى إليك. 

فى قصة سيدنا يوسف، بعض المفسرين ينسبون قوله تعالى «وما أبرئ نفسى إن النفس لأمارة بالسوء» على أنه كلام سيدنا يوسف، مع أن الكلام انقطع، لأنه من كلام امرأة العزيز وليس كلام سيدنا يوسف. 

■ الباز: هذا هو المشهور بالفعل، فالكلام لسيدنا يوسف. 

- أبوعاصى: هذا خطأ، لأن كلام سيدنا يوسف انتهى، وبدأ كلام امرأة العزيز. 

وعندك أيضًا «وشروه بثمنٍ بخس» تجد بعض المفسرين يقولون إن إخوة يوسف شروه يعنى باعوه، مع أن الكلام على السيارة، عن الذين أخرجوه من البئر. 

هذه نماذج عديدة من قراءة القرآن دون تدبر، فنحن نقول إن السياق يحدد المراد، وعلماء اللغة الحديثة يقولون إن الكلمة تستمد حياتها من السياق، السياق هو روح الكلام. 

■ الباز: السياق حاكم طول الوقت والخروج عنه خطأ. 

- أبوعاصى: بالضبط.. والمعنى اللغوى للكلمة بمفرده قد لا يعطيك المعنى القرآنى، ولذلك لا يكفى أن تنظر فى مفردات اللغة، لأن الكلمة القرآنية قد يكون لها مدلول فى المعجم اللغوى، لكن لها مدلول آخر فى سياق الآيات، والقرآن يعلمنا أن نأخذ الكلام فى سياقه، لكن بعض المفسرين يجتزء الكلام، وهو ما يُحدث أحيانًا ضجة كبيرة. 

■ الباز: اسمح فضيلتك النماذج التى ذكرتها يمكن ألا تضر الناس حتى وهى خارج سياقها، فهل تم إخراج آيات من سياقها، وهذا الإخراج أضر الناس؟ 

- أبوعاصى: عندنا نموذج الآية «فاقتلوا المشركين كافة» وقد تطرقنا إليه، فالقتل والدمار والتخريب جاء لأن الجماعات المتطرفة أخرجت الآيات من سياقها ووظفتها فى غير أبوابها كى تخدم أغراضها السياسية. 

■ الباز: تحول الإسلام بذلك على أيديهم إلى دين دموى وهو ليس كذلك. 

- أبوعاصى: عندما نقرأ «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا» نعرف أن الغرض من خلق البشرية أن نتعارف، وليس ليذبح بعضنا بعضًا ولا ليقتل بعضنا بعضًا، ولا ليكفر بعضنا بعضًا. 

■ الباز: لو طبقنا هذا المنهج، إخراج الآيات من سياقها على آيات الربا، ماذا تقول؟ 

- أبوعاصى: فى آية «آل عمران»: «لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة»، البعض أخطأ وأمسك بالآية وقال إن الربا المحرم ما كان أضعافًا مضاعفة، وعندما نرجع إلى الآية «وأحل الله البيع وحرم الربا» نجد أنها لم تقل أضعافًا مضاعفة، وعندما نأتى إلى الآية «فإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون» يكون ما يزيد على المال بقطع النظر هل هو مضاعف أم غير مضاعف. 

وعندما أقف عند كلمة «لا تَظلمون ولا تُظلمون» فأنا لو أعطيت أحدهم ١٠٠ ألف جنيه من سنة، وجاء ليردها، لا بد أن أسأل ما قيمتها الآن، فلو أخذتها بما يوازى قيمتها الحالية تقول لى إن هذا ربا، والحكم أنه ليس ربا إطلاقًا، يمكن أن تأخذ الـ١٠٠ ألف وتعتبر الزيادة فى القيمة ثوابًا عند الله، لكن إذا رفضت وأخذت بالقيمة فهذا ليس ربا. 

■ الباز: هذا أمر مهم وأنا لا أتحدث عن المعاملات البنكية، فأمرها أصبح محسومًا، لكنى أتحدث عن المعاملات الفردية، وحضرتك قلت إن ما يحدث ليس ربا. 

- أبوعاصى: المعاملات البنكية أمرها محسوم، لكن لا يزال هناك كلام، لأن هناك من لا يزال يُحرّم المعاملات البنكية باعتبارها ربا. 

■ الباز: نحن معك.. ما الذى تقوله فى ذلك لو انطبقت؟

- أبوعاصى: السؤال عن فوائد البنوك وهل هى ربا أم لا ليس منطقيًا أبدًا، وليس منطقيًا أن أقول مثلًا إن القرآن لم يقل إن البنوك حرام، لأنه فى العلم شىء اسمه «تنقيح المناط» والمناط هو العلة، فهل العلة تنطبق على ما بين أيدينا أم لا تنطبق، لو انطبقت يصبح الربا حرامًا. 

والسؤال: هل فوائد البنوك تندرج تحت الربا، أم أنها معاملة مستحدثة وعقد جديد لم تكن موجودة أيام الرسول، صلى الله عليه وسلم، ولا تندرج تحت الربا من الأساس، أم أنها عقد مضاربة، والمضاربة جائزة، فيأتى فقيه يقول لى: لكن المضاربة لا يحدد فيها الربح، سأقول له: بل أحدد الربح لأن الأمور الآن قائمة على دراسات، وقلما نسمع أن بنكًا يخسر، فأنا أريد أن أضمن المال وأحدد الربح الذى سأحصل عليه. 

■ الباز: أشرت إلى ختام الآية «لا تَظلمون ولا تُظلمون»، وهى تعنى أنها تعالج ما نعرفه من أمور التضخم وغيرها. 

- أبوعاصى: فى إطار عدم الظلم فى المعاملات، أى معاملة يدخلها استغلال أو ظلم فهى حرام، أى معاملة يدخلها غش أو خداع هى حرام، ولذلك الآن معظم السلع التى يرتفع سعرها على الناس نتيجة احتكار التجار وظلمهم وجشعهم، وهى معاملة ظالمة فهى حرام، والرسول يقول «لا يحتكر إلا خاطئ». 

■الباز: على هامش مناقشتنا لهذه الأمور فى محاولة بحثنا عن تفسير جديد لآيات القرآن، يتحدث الناس أحيانًا عن القسط، ومؤكد هناك من سألك: هل تقسيط السلع حرام؟ 

- أبوعاصى: البيع بالقسط جائز عند كثير من العلماء، ولا شىء فيه، لكن هناك من يقول أنا أشترى سيارة بمليون جنيه، ولو أخذتها بالتقسط يصبح سعرها مليونًا ونصف المليون، ويقول البائع إن هذه الزيادة مقابل الزمان، لكن تجد من يقول إن هذه المعاملة ربا. 

أنا أقول إن هذا ليس ربا، وهذه الزيادة مقابل السلعة وليست مقابل الزمن، وأنت لو راجعت عملية التضخم واعتبرت أن هذه الزيادة مقابل الزمن، فهذا جائز أيضًا، لكن المليون جنيه بعد خمس أو ست سنين تقل قيمته، وهذا أمر فى العالم كله وليس مقتصرًا على مصر وحدها. 

وعلى أى حال فالمعاملات عمومًا لا بد من النظر فيها بشىء من التعقل وبشىء من الفكر، لأن المعاملات تحديدًا قائمة على مصلحة الناس، ولدينا قاعدة مهمة تقول «الأصل فى العبادات المنع حتى يأذن الشارع، والأصل فى المعاملات الحل حتى يمنع الشارع»، يعنى أنا أُصلى، فأنا أصلى حتى يقول لى الشارع شيئًا آخر، لكن المعاملات الأصل فيها الحل حتى يأتى الشارع ليمنع هذه المعاملة. 

■ الباز: المعاملات تختلف بالطبع، لأنها خاضعة للمجتمع والعرف، وكل مجتمع له ظروفه وعرفه. 

- أبوعاصى: لو رجعنا إلى القرآن الكريم وسألنا: كم آية وردت فى البيع؟ سنجدها آيتين أو ثلاثًا، وهو ما ينطبق على المعاملات، الآيات فيها تعد على الأصابع، لأن الشرع يريد أن يترك الحركة للناس، لا يريد أن يقيد حركتهم فى كل شىء. 

والإسلام تتحدد مقاصده فى عدة أمور: 

أولًا: تصحيح عقائد الناس فى تصوراتهم عن الله والآخرة. 

ثانيًا: تأسيس المجتمعات على القواعد العامة وهى العدل وحقوق الإنسان. 

ثالثًا: إنصاف المرأة التى كانت حقوقها مهدرة فى الجاهلية. 

الدين جاء ليضع الخريطة العامة، يضع الأسس، ويترك التفاصيل للناس. 

يقول لك مثلًا «وأمرهم شورى بينهم»، لكن كيف أكون مجلس الشورى، مدته كم سنة، ما هى اختصاصاته؟ قال لك هذا يرجع للبيئة والعادات ولاختلافات الزمن. 

وفى آية «أحل الله البيع»، نتساءل هل كل بيع حلال؟ وهل بيع النجاسات حلال؟ هل بيع الخنزير حلال؟ بالطبع هناك بيوع مُحرمة. 

وهناك شىء غريب عندما نأتى لقراءة القرآن ونحصى المحرمات، فهل المحرمات أكثر أم الحلال أكثر؟ 

المحرم محصور، لكننا فعلنا العكس، أوجدنا قائمة طويلة من المحرمات، فأصبح الحرام أكثر من الحلال، والمشايخ من غير المتخصصين يقولون لك لأنهم لا يعلمون: من الورع أن تترك الأمر تحوطًا أن يكون حرامًا، رغم أن الفقهاء يقولون: الفتوى لا تقوم على الورع، فأنا عندما أفتيك أفعل بما يحقق مصلحتك وحاجتك، أما الورع فله طبقة عالية من الزهاد من العباد، الذين يمكن أن يتركوا أشياء كثيرة رغم أنها حلال. 

وهناك رأى يقول إنه يجوز أن تفتى برأى ضعيف إذا كان يحقق مصلحة الناس على رأى قوى إذا كان لا يحقق مصلحة الناس، فسهل جدًا أن تقول حرامًا ومكروهًا، لكن الصعب أن تبحث عن حل لمشكلة معروضة عليك، لأن هذا يقتضى أن ننظر فى المصالح وفى الاستحسان وفى الفقه والأصول، وندرس القرآن بعمق وتدبر. 

وظيفة الفقيه أن يبحث عن حلول للناس، وليست وظيفته أن يقول لهم على كل شىء حرامًا. 

■ الباز: من يقول على كل شىء حرامًا هو فى النهاية يخلص نفسه من مأزق؟ 

- أبو عاصى: المشكلة ليست فى أن أتخلص من الأزمة، ولكن المشكلة فى الآثار التى تبقى فى المجتمع، هذا الأثر سيظل موجودًا، وأنا أذكر عندما كنت صغيرًا، وكنا نعيش فى منطقة شعبية، وحدثت معركة كبيرة جدًا لسبب حكم لمس المرأة وهل ينقض الوضوء أم لا؟ 

أنا مذهبى حنفى وفيه أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء، وهناك من تربى على المذهب الشافعى الذى يقول إن لمس المرأة ينقض الوضوء، والغريب أن رأى الشافعية يتوارثه الناس ويتمسكون به. 

■ الباز: هذا له أثر سلبى كبير بالفعل، فهناك آراء يتوارثها الناس ويعتبرونها من الدين، وعندما تأتى لتقول رأيًا صحيحًا يتناسب مع الدين، تجد مقاومة كبيرة وممانعة، رغم أن الرأى الجديد يكون فى مصلحة الناس ويسهم فى التيسير عليهم. 

- أبوعاصى: هناك أمر آخر أكثر خطرًا فيما أعتقد، فنحن أكثرنا فيما لا نحتاج إليه، وضيّقنا فيما نحتاج إليه، ولذلك لا بد ونحن ندرس القرآن أو نقوم بتفسيره أن نتعامل معه على أنه فقه حياة، نخوض به كل قضايا حياتنا، لكننا نمسك بآية الوضوء التى هى أربعة أركان بنص القرآن «إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين»، فرغم ذلك ستجد فى كتب الفقه أبوابًا كثيرة، وتقرأ ما يزيد على ٢٠٠ صفحة فى كتب الفقه عن الوضوء فقط، رغم أن المسألة بسيطة جدًا. 

■ الباز: إذا أذنت لى يا دكتور هل يمكن أن نخصص حديثنا القادم عن هذه الفكرة، وهى أننا ونحن نفسر القرآن أسرفنا فى أشياء كثيرة جدًا قد لا نكون فى حاجة إليها، وتمسكنا بأشياء يمكن أن تكون معطلة أو معرقلة للحياة؟

- أبوعاصى: ليكن هذا موضوعنا القادم.