رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المواهب التى تنكسر على الطريق

أحيانًا تؤرقنى أسئلة لا علاقة لها بالشأن العام ولا حتى بدوائر الاهتمامات العامة، ومن ثم أتردد فى الكتابة عنها، ثم أغامر أحيانًا بعرض تلك الخواطر، ربما أجد من يقاسمنى إياها. من تلك الأسئلة موضوع المواهب العظيمة التى تعلو وترتفع لكنها لا تواصل التحليق، وإذا بها تنكسر، وتنزوى على غصن هزيل، على حين كانت السماوات كلها مفتوحة لها.

إحدى تلك المواهب المطرب كمال حسنى، صاحب الصوت الجميل والوجه المريح الذى لم يكن يعرفه أحد، ثم شق طريقه إلى الشهرة عام ١٩٥٥ بفيلم «ربيع الحب» مع شادية، وأثبت أن صوته جميل ومعبّر، لكنه بعد ذلك الفيلم الوحيد هاجر إلى لندن وظل هناك يشتغل فى التجارة، ثم عاد إلى مصر فى التسعينيات، وتوفى فى أبريل ٢٠٠٥ فى صمت تام، ولم يترك سوى أغنيتين ما زلنا نسمعهما: «غالى عليا»، وأغنية «لو سلمتك قلبى» مع شادية. بدأ من القمة وعمره ٢٩ سنة وانفتحت أمامه كل أبواب الإبداع والتألق على مصراعيها، لكنه انطفأ وابتلعه الظل خمسين عامًا كاملة وهو موهوب وذو صوت معبّر حساس. نحن على دراية بالقوانين التى تحكم مسيرة الفنانين الناجحين، لكننا لا نعرف شيئًا عن الظروف والأسباب التى تخمد النجوم بموجبها، ربما لأن للنجاح قوانين مشتركة أما الفشل فإن لكل حالة قانونها الخاص. أتأسى كثيرًا حين أتذكره، وأحاول أن أتخيل الأسباب التى عاقته، وأن أتخيل شعوره الشخصى بانكسار جناحيه، رغم قدراته المرموقة، وأتذكر ما قاله المتنبى فى ذلك الصدد: «لم أرَ فى عيوب الناس عيبًا.. كنقص القادرين على التمام»، أى أن كل أسباب التمام توافرت للموهبة لكنها رغم ذلك تعثرت فى منتصف الطريق.

إليك مثال آخر، هل سمعت يومًا عن فنانة تُدعى مونا فؤاد؟ ظهرت مونا فى نحو عشرة أفلام فى الخمسينيات، بطلة، ومع ذلك اعتزلت وتوفيت فى فنزويلا عام ١٩٩٣. لماذا لم تواصل التحليق وقد بلغت قمة الجبل؟

المطرب محمد أمين، الذى لا يعرفه أحد الآن، برز عام ١٩٤٩ بطلًا لفيلم «الستات كده» مع كاميليا، مطربًا وممثلًا ونجمًا، ثم انزوى وتبددت الموهبة، لماذا؟ كيف؟ سؤال مشبع بالحيرة. ولا أظن أن الكثيرين قد سمعوا باسم «سيلين أكسيلوس»، وهى شاعرة مصرية مواليد ١٩٠٢، وتوفيت ١٩٩٢، نشرت ديوانين من الشعر هما: «المصليان» عام ١٩٤٣، و«خطوات العاج» عام ١٩٥٢، وكان أخوها الأكبر رينيه شاعرًا أيضًا لكن الموت اختطفه مبكرًا بمرض السل. عاشت سيلين فى الإسكندرية، تزوجت لكن زوجها فر بعد ذلك بابنهما الوحيد إلى أمريكا فلم تره إلا بعد خمسة عشر عامًا. وأدت صدمة وفاة أخيها ثم اختطاف ابنها إلى اعتزال سيلين المجتمع، وكتبت تقول: «لقد أصبحت أكره بشدة هذا العالم البشع»، وتهدمت موهبتها من دون أن تواصل التحليق. هذه النماذج كثيرة للأسف، وكلها تثير الأسى، لأنها كانت تجسيدًا للقدرة والعجز معًا.

ومن الواضح أن الموهبة لكى تتحقق تتطلب ما هو أكثر من الموهبة ذاتها، قد تتطلب الإصرار، والقدرة على تحمل ضربات القدر، والقدرة على العمل الشاق، وأحيانًا القدرة على إقامة علاقة ناجحة بالمجتمع. لكن يظل انكسار الأجنحة مؤلمًا، ويظل لكل انكسار قانونه الخاص. يفتتح ليو تولستوى روايته العظيمة «آنا كارنينا» بالفقرة التالية: «تتشابه كل العائلات السعيدة، لكن لكل عائلة تعيسة طريقتها الخاصة»، ويبدو أن ذلك أيضًا يجرى على المواهب، إذ تتشابه كل المواهب الناجحة التى واصلت الطريق، لكن لكل موهبة تعسة طريقها الخاص.