رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تَنَبُّؤَات

أحمد شرقى - المغرب
أحمد شرقى - المغرب

لم يَنَل منى ملل الانتظار، ولا احتجاج المنتظرين، بقدر ما استفزنى ذلك الرجل الغريب، فصار حلمى الوحيد، هو التخلص منه.

فى طابورٍ بدا لى كناطحة سحاب مسترخية على الأرض، كنت أنتظر دورى، أتفقّد الوجوهَ من حولى فأجِدُها باسرة ساخطة، أسترق السمع من الأمام فألتقط عبارات: «غير معقول»، «عدد الموظفين غير كاف».. وخلفى صدى العبارات نفسها يتردد!

شخص واحد فقط، خلفى مباشرة؛ برفقة عصفوره، يكسران روتين المشهد غير مباليين بقساوة الانتظار. كان يتأبط جريدة أجنبية، جسمه يشبه جسمى فى النحافة حد إثارة الشفقة، ورأسه كبير مثل رأسى، لكن رأسه يعتليه عصفورٌ صغير خبيث، يقفز من حين لآخر فوق تسريحات شَعْر المسافرات، فيملأ صراخُ الخوف والاستهجان المكان.

ناهيك عن أننا نختلف فى أمرين، أنا والرجل الغريب، ظهرُه بدأ فى التقوس بخلافى، وعيناه جاحظتان عكس عينى اللتين تقاومان الأرق، الذى يحاصرنى فى كل سفر.

كان ينتحى جانبًا برأسه فقط، مخاطبًا جيرانه فى الأمام وفى الخلف بلغة واثقة ودون مقدمات: يجب أن نتريث فى إصدار الحكم، المظاهرُ خدّاعة.. يرتاح قليلًا ثم يرمى برأسه:

من قال إن الحلاق ليس رجل استخبارات؟ ومن قال إن بائع الحلوى للأطفال ليس صحافى تحقيقات؟ ومن قال إن سائق سيارة الأجرة ليس عميلًا؟ احذروا أصدقائى، ولا تتبادلوا أطراف الحديث مع أى كان.

أجَّجَ سخط البعض، فى حين أثار سخرية الآخرين، ولم يعره كثيرون أدنى اهتمام.. أما أنا، فكنت أستعد لإهدائه لكمة قاضيةً تكسر فكّه السفلى، ويطير معها عصفوره الماكر فارًّا.

بعد دقائق، تحررت من ضجيجه السوفسطائى، تقدمْتُ بخطى مسرعة نحو الشرطى، كنت مبتسمًا فى وجهه، فى الوقت الذى لم يخفِ هو استغرابَه، وقال إننى أول مسافر يأتى إلى المراقبة ضاحكًا، فمعظم المسافرين يصِلُون مرهقين ليست لديهم قدرة الصبر على الوقوف، والانتظار دقائق حتى تتم مراقبة الجوازات.

كان الشرطى قد استرسل فى الحديث وطرح الأسئلة، أما أنا فزاغت ذاكرتى، ورجعت بى إلى الطفولة البريئة فى قريتنا النائية؛ ألا يمكن أن يكون هذا المراقب هو موسى؟ الذى كنا نلقبه ساخرين بالربّان؛ إذ كان يوصلنا على متن عربته التى تجرها دابة إلى المدرسة كل يوم ذهابًا وإيابًا، مقابل نصف درهم للتلميذ؟ كان تلميذًا أيضًا، ذكيًا ومُجدًا، لكنه لم يكن يحب وصفه بالربان، «سأكون شرطيًا فى المستقبل».. يصرخ فى وجوهنا فى كل مرة. تذكرت أيضًا خيبة أملى، ورفْضَ السُّلطات الفرنسية طلبَ تجديد إقامتى لسبب غريب وغير مفهوم: «دواعٍ أمنيّة»!، ربما يفكرون مثل صاحب العصفور.

مدّ لى المراقب، الذى لم أتجرأ على سؤاله عن اسمه، جوازَ سفرى ملاحظًا سهوى وعدم استيعابى لما كان يقول، ابتسم وودعنى: «الله يْخَلِّيكْ ديمَا ضاحكْ».

فى باب المطار تهافت علىّ أصحاب سيارات الأجرة:

• إلى أين سيدى؟

• أوصلك بثمن مناسب أستاذ!.

بل إنَّ منهم من يقصد حقيبتى قبل أن ينطق بحرف، محاولًا الزجَّ بها فى صندوق سيارته! أحسَسْت وكأنى نجمٌ سينمائى يتبختر فوق السجادة الحمراء لمهرجان ما، وما زاد سعادتى؛ هروبى من الغريب المجنون وتركه فى المطار.

وقع اختيارى على رجل لا يظهر عليه جشع الآخرين، إذ لم يلح علىّ، ولم يزعجنى بترحيبه المبالغ فيه. قال بعد أن اتفقنا على الوجهة والثمن: 

- تفضل.. اطلع.. عندى زبون قبْلك له وجهتُك نفسُها.

ثم حمل الحقيبة ليضعها فى الصندوق الخلفى لسيارته، فى الوقت الذى صعدْتُ فيه لأجاور المسافر الآخر؛ اصطدمت به وجهًا لوجه، تولَّدَت ضحكة هِسْتيرية كتمتُها فى صدرى.. إنه هو عينه، الرجل الذى يحذّر العالمَ ويشك فى كل شىء، استغربت لابتسامته فى وجهى وعدم تكهن العصفور الذى يحوم فوق رأسه، بأن الماثل أمامه هاربٌ من العدالة أو جاسوس! وكان من الحتمى أن أحرر الضحكة التى بداخلى ولو بتصريفها على هيئة كلمات؛ فابتسمْتُ فى وجهه: 

• ومن قال إن السائق لن يخطفنا؟

فى الوقت نفسه، انطلق السائق، ولم أعرف كيف نَبَتَ عصفور صغير آخر فوق رأسى، عكسته لى المرآة الداخلية للسيارة !!

نص من المجموعة القصصية

«خَفْقٌ إِلَى أَعْلَى وَإِلَى أَسْفَلْ»، ٢٠٢٤ دار ذاتك للنشر والتوزيع والترجمة.