رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وربما

صفا عزت صيام
صفا عزت صيام

صباح هادئ تسرى بأنفاسه برودة الشتاء، الأرض تبللت بطبقة رقيقة من مياه المطر. السكون يحيط بمحطة الحافلات حيث أنتظر. يمسح هواء خفيف وجهى برقة، ذلك المخلوق السحرى الشفاف الذى يهدينا الحياة فى كل شهيق، ربما تشبهه مشاعرنا، ربما تتكون مثله من جزيئات لا نراها لكنها قادرة على تشكيل ذواتنا. يملأ الهواء رئاتنا فيحيلنا من الموت للحياة، وتغزو قلوبنا المشاعر فتتشكل نفوسنا وتتلون.

كنتُ أول من ركب الحافلة المتجهة إلى أكتوبر، لا أريد أن أفكر فى شىء، أطرد من عقلى أى خاطر يحاول التسلل إليه. أسندت رأسى إلى المقعد الذى تعودت أن أستقله، ووضعت السماعات على أذنى. بعد برهة من الزمن، شعرت بحرارة جسد ما إلى جانبى، لكنى لم ألقِ بالًا، تعودت أن أغمض عينى وأنعزل عما حولى، لعلى أجد قدرًا من السلام. أسمع «أهواك»، جعلتُها تكرر نفسها تلقائيًا كلما انتهت.

«أهواك واتمنى لو أنساك، وأنسى روحى وياك، وإن ضاعت تبقى فداك وارجع تانى، فى لقاك، الدنيا تجينى معاك..».

تلاشى صوت حليم فجأة، اخترق صوت آخر مجال أذنى. يا إلهى، ما أعذبه! ربما صدق من قال إن المرأة تعشق بأذنيها أولًا. إن صوته لا يفارق خاطرى منذ سمعته أول مرة يتحدث إلى صديقتى فى حفل ختام مسابقة الرسم منذ عامين. شىء خفى سرى إلى قلبى. التفتُ إليه، غاب الحضور كلهم، لم أعد أشعر إلا بيدى تذوب فى سلام بدا عابرًا للجميع، إلا أنا، وهو.

تردد صوته ثانيةً، يحيط بى، يقترب أكثر، فاتنًا كما لو كان يهمس بأذنى، دافئًا كأنه يمسد شعرى. عندما سمعت اسمى بصوته فتحت عينى أخيرًا، كان جالسًا إلى جوارى، ينظر إلىّ بعينيه المعبرتين وابتسامته الرزينة..

ارتجف جسدى كله، استدارت عيناى دهشة. أى صدفة هذه التى تلقى بكل مجهودى لنسيانه فى أكبر محيط؟! هل يعقل أن يجمعنا القدر بهذه البساطة؟ 

تجمدت الكلمات فى حلقى، لم أستطع حتى رد تحيته، اكتفيت بابتسامة، وإيماءة.

لملمت شعرى من على جانب وجهى، حركته بعصبية. يا لتلك الشعرة البيضاء اللعينة، لم يسعفنى الوقت لأتخلص منها، أتراه لاحظها؟ هل يبدو وجهى شاحبًا؟ لم أضع أى مساحيق اليوم.. هل سينتبه لخطوط وجهى عندما يرانى بهذا القرب؟

صدفة أتمناها كل يوم، أبحث عنها فى كل حافلة أستقلها، وفى كل شارع أرتاده، وفى كل وجه أراه. لكن وجوده الآن حقيقة بجانبى؛ يغرقنى عطره، ويحيطنى دفء أنفاسه، هو أمر مختلف كثيرًا.

كانت هذه المرة الأولى التى أراه فيها بهذا القرب، المرة الأولى التى ألاحظ فيها أن عينيه تضيقان عندما يبتسم، تمامًا مثل عينى.

أقف على شاطئ حياتى، وهو على الضفة البعيدة الأخرى. أراه طيفًا رقيقًا يمحو قسوة أيامى. أمد يدى لآخر مداها فلا أصل إليه. هو الآن هنا، رغمًا عن الدنيا، يجلس بجانبى، لا يفصلنا سوى جذوة من لهيب مشاعرنا.

تخرج الكلمات من فمه عذبة، تملأ الفراغ من حولى، يسألنى: لماذا أضحك؟، أخبره بأننى أتخيل كلماته تتطاير مكتوبة أمامى كما تعودنا أن نتبادل الكتابة بين حين وآخر.

لم أخبره بأن كلماته تدعونى أن أتخيلنا نرقص التانجو معًا، هنا فى منتصف الحافلة، منصهرين، توحدت أنفاسنا، خطانا، لفتاتنا، نظراتنا، تجاورت قلوبنا، نحلّق بعيدًا..

ربما فى عالم غير عالمنا أستطيع أن أنظر فى عينيه، أبوح له بما يختلج فى صدرى، أخبره بأننى أتخبط فى حبه كمراهقة لم تجرب الحب من قبل، يغزونى ثم يجتاحنى ثم يهجرنى ثم يدنينى ثم يبعدنى.

هل لا بد أن يُطوى الطريق؟ هل يجب أن نصل؟ ماذا لو تعطلت الحافلة فمنحتنا فسحة إضافية من الوقت حتى يطول حديثنا اللذيذ؛ عن الطعام، الفن، الضحك، عن لا شىء، عن كل شىء؟ لا أعرف كيف يفهمنى دون أن أكمل ما أقول، فيكمل هو. كيف أمنع نفسى من رغبتى فى أن أحكى له كل شىء يمر فى حياتى، الفستان الذى اشتريته، جارتنا التى أساءت فهمى، ذكرياتى فى الجامعة، أبنائى، لونى المفضل، الرسم، مشروعى الجديد؟ هل يمكن أن أحبه فقط؟ هل يمكن أن يحبنى فقط؟ هل تجود علينا الدنيا بهذه الفرصة؟ هل يمكن أن نبقى هكذا على الحياد من الحياة؟ ماذا لو أسقطنا القدر من حسابه اليوم؟ ربما انحرف السائق عن مساره ووجدنا أنفسنا وحدنا فى غابة مسحورة، لا يعرف بها أحد؟ ربما عاد بنا العمر، فلم نخفق ولم نَتُهْ ولم نَضِعْ.. وربما قابلته قبل كل شىء.