رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

زواج البحر

شريف مصطفى
شريف مصطفى

صحيح أنهم أخبرونى بأن كل إنسان سيموت، لكننى لم أتوقع أن يكون موتى مبكرًا إلى هذه الدرجة، كنت أريد أن أعرف معنى الكِبر، أن أعطِف لا أن يُعطف علىّ، أن أنجح فى حياتى بعد عناء، أن أحب وأتزوج، فجأة وجدت نفسى فى هذه الظلمة بإمضاء قرار سماوى لا أعلم ما هى حكمته، ما الهدف من اختيار طفل عمره تسع سنوات كى يموت؟!

أين أنا؟ لا يمكن أن يكون هو، لقد سمعت عن الموت وتخيلته لكننى لم أتوقع أن يكون وحشيًا إلى هذه الدرجة، وأسوأ ما فيه أننى وحيد تمامًا، لا يوجد أبى ولا توجد أمى، وكذلك أصدقائى بحثت عنهم فلم أجدهم. ظننت أنه ربما سأجد فرصة للقائهم واللعب معهم، لكن لا يوجد سواى. الظلمة عظيمة السواد، ورائحة الخوف تفوح فى الهواء، وأصوات القبور لا ترحم أذنىّ، هل حقًا أنا ميت؟ 

سنى صغيرة للغاية، ليس هذا ما أخبرنى به أبى وأمى ومعلمو المدرسة، كان يجب أن أعيش فترة مراهقة، وأدخل الجامعة، وأعمل، أين بقية سنين عمرى؟! علاوة على ذلك، هذه المرحلة لم يذكرها لى أحد، أخبرنى أبى عن الحساب، والجنة، والنار، لم يخبرنى أبى أن هناك حياة للموت!

ما أعرفه أن الموت هو نوم مدته طويلة، لا يشعر فيه الإنسان بشىء، ثم يستيقظ على صوت قوى ويقوم البشر من أجل الحساب، لكن هذه الحياة بين الدنيا والآخرة لم تكن فى الحسبان ولا أعرف ماذا سأفعل فيها؟، أنا هنا منذ مدة مجهولة، وربما حسابات الزمن تختلف فى هذه الحياة، لكننى أشعر بأن الوقت الفائت ليس بالكثير، ولا أفعل شيئًا منذ أن وُجدت هنا سوى الجرى والبحث فى القبور، ولا أرى سوى تراب يتسق مع الأفق ووجوه أموات.

والغريب فى الأمر أننى- حسبما أتذكر- لما حُملت ووضعت فى قبرى كنت مغطى بغطاء أبيض والقبور حولى عددها محدود، أما الآن فأرتدى زيًا كنت أحبه وقت الدنيا، والقبور شملت كل أرجاء الكون. أنا صبى كنت فى صغرى ألعب بمكعبات، وكنت مؤخرًا ألعب بالكرة مع أصدقائى فى النادى، ماذا يُفترض أن أفعل الآن؟! 

جلست أبكى وأصرخ لكن لا أحد يسمعنى، والقبور ثابتة، وما من ميت استيقظ ليلبى ندائى، إن كنت أنا ميتًا وأتحرك وأبكى، فكيف هؤلاء كذلك أموات وهم ثابتون؟! لا أحتمل كل هذا، يجب أن يظهر لى أى شىء يؤنس وقتى وإلا متّ، لكن كيف سأموت فى حياة الموت! فجأة وأنا جالس أبكى سمعت صوت صفير فتجاهلته، ثم صار الصوت صاخبًا ومخيفًا، نظرت ورائى، وجدت إعصارًا يهب بلا شفقة، أحجارًا تتصادم، وأمواج الأموات تتلاطم كمكعبات، وديدان الأرض تتشابك أمام عينىّ كسلاسل تحرّم السير إلى أى اتجاه، ظللت أترنّح ذهابًا وإيابًا لمدة لا أعرفها إلى أن وقعت وغطنى التراب. تضاعفت أنفاسى ودقّ الرعب فى قلبى، لكن بعد وقت قليل هدأت؛ فقد وجدت فى التراب مُخلصًا من كل هذا الخوف، وتظاهرت بالاطمئنان، وقررت أن أظل هكذا إلى أن يقوم للبشر حساب. 

لكن من الواضح أنى لن أعرف الراحة، وأنا تحت التراب امتدت يد إلىّ، فزعت وصرخت، لكن اليد حاولت أن تطمئنى، فالتقطت بعض أنفاسى وتأملت هذه اليد، فرأيت خاتمين أسودين، ظننتها يدًا لمخلوق غير البشر، لكن تناثر التراب أمام عينىّ وسمعت صوتًا يقول: لا تخف.. تعال معى.

استجبت لا من شىء سوى أنه القرار الأوحد المسموح، فأغمضت عينىّ وأمسكت بيده، نعم يد إنسان، شعرت بحسّ البشر الدافئ، واطمأننت لمسام جلده الحنون ثم خرجت من الحفرة. 

ولما فتحت عينىّ وجدت نفسى أمام رجل أنيق، رداؤه بالكامل أسود اللون، أنا أحب هذا اللون منذ صغرى، كذلك أمى كانت تتعجب دومًا أنى لا أحب الألوان كباقى الصبيان، رفعت رأسى إلى وجهه فرأيت ابتسامة طفيفة لطيفة: 

- لا تخَف. 

صوته مطمئن، فمددت له يدى وسرت معه قليلًا دون أن أنطق بحرف، قررت أن أستمتع بالأنس وأترك آلام الوحدة التى لا يزال أثرها موجعًا فى قلبى. لا أعرف من هو، لكن لا خيار لدى؛ فهو وحده من طمأننى وسأظل معه، ومهما طلب أعتقد لا خيار لدىّ سوى الطاعة، ولكن أتمنى ألا يستغل هذا فأصبح عبدًا ملكه وحده:

- أتحب أن تذهب إلى مقابر النجوم؟

اسم يلفت طفلًا مثلى وأظن أنه يلفت الكبار بالمثل. لم أملك جوابًا صريحًا، وخجلت أن أسأله عن هذه المقابر، لكن ربما فيها شىء من البهجة مختلف عن باقى القبور. ثم ربت على كتفى كى يطمئنى أو ربما كى يجبرنى على الذهاب، ثم التمست بعض الارتياح الفطرى فى ابتسامته، فأومأت برأسى دون كلمة.

سرت معه فى صمت تام، من الواضح أنه يعرف وجهته جيدًا، وربما هو وحده من يعرفها، ولا أعلم إن كان هناك آخرون معنا أم لا؛ فهو أول إنسان قابلته هنا وحدّثنى، ليس مجرد وجه متصلّب لأموات القبور. صاحبته فى منحدر جارف، ثم حفرة تبدو أعمق من حقيقتها، ثم طريق يبدو فاصلًا بين عالمين: على جانبيه التراب كالمعتاد، لكنه تراب ذو لون ذهبى جميل، شىء فيه مميز لهذا الطريق، أو لأموات هذا المكان بالتحديد، لكنى لا أعتقد أن طبقات البشر فى الدنيا ستتواجد فى الموت! ما الذى يمكن أن يميز ميتًا عن ميت آخر؟! 

فى آخر الطريق المظلم وجدت نفسى بجواره أمام باب خشبى ضخم وسط حائط قاطع الطريق، ضربه بقبضته ثلاث مرات: 

- قانون برزخ.. قانون برزخ.. قانون برزخ.

مقطع من رواية:

زواج البحر