رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محطات الغياب

يوسف الشريف
يوسف الشريف

فجأة وجدتها أمامى، كما هى، كهيئتها التى خلقتها من الحبر على الورق، قبل عام أو ربما أكثر من لقائى بها، لا أدرى. وفى المكان نفسه الذى شهد العناق الأول، بمعرض الكتاب، حيث كل الكلمات التى قيلت، وكل الكلمات التى لم تقل.

قبل أن تتمثل أمامى كاملة- مصطحبة فى يدها من خلقته من نار.. أيضًا على الورق قبل لقائى به- كنت أظن أننى سأتعامل مع حضورها كوجه آخر للغياب. سأتعامل وكأننى لا أرى أحدًا أمامى. لن أصافح لأننى لم أصفح ولم أصالح.

قلت لربما أدركت أو تدرك كيف عذبتنى اللحظات التابعة لغيابها؟ ولكنى كما وصفتنى فى لحظة الفراق حالم.. لا أملك سوى الكلمات.

أعلم أن الغياب مؤلم لأنه قرين الفراق، والفراق مؤلم كموت اللحظات، ولكن الحضور أيضًا مؤلم قاسٍ. قبل رؤيتها أمامى كانت فكرة غياب حضورها تؤلمنى، أن تكون موجودة ومرئية رؤية العين وفى الوقت نفسه، لا وجود لها بين صفحاتى.. ولذلك فضلت الهرب.. أول ما رأيتهم تلاشيت، كأننى لم أكن، كأننى أنا الجانى، كأننى بالفعل إله يخشى فكرة أن يتمرد عليه من خلقهم. ولأننى لا أستطيع دفنهم إلا على الورق.. تلاشيت.

أصبحت أتحاشى، وأتجنب رؤيتها، فى اليوم التالى وبعد مغادرتى المعرض، وقبل أن أصعد للحافلة المتوقفة بالمحطة، قال لى شىء فى أذنى: لا تصعد فهى على متنها معه.. فتوقفت متخشبًا.

بعد ذلك اندهشت بيسان من فكرة أننى عرفت أنها وصنع الله على متن الحافلة دون أن أصعد.. كيف عرفت أنها وصنع الله معًا وأنا على بعد عدة أمتار من الحافلة؟ كيف؟!

ولكن ما يهم هنا أننى وبعدما بلغنى الهاتف الذى جعلنى أفضل تحاشى مواجهتها للمرة الثانية.. سرت قشعريرة فى جسدى، شعرت بأننى على وشك الموت، كأننى أهرب من خطيئتى الأولى، خطيئة تلاحقنى.. أدفع ثمنها كل يوم. خُيل لى أن السماء فوق رأسى، تكاد تنطبق، وأن لا أحد فى الكون سواى، بدت صحراء الدنيا قاحلة أكثر مما كانت، وشعرت بوحدتى، إننى بالفعل منفى، أشعلت سيجارة، وأخرى، ازداد الطنين فى أذنى، وضاقت الدنيا فى نظرى، لا أعرف ما جرى.. لم أستيقظ إلا حين رأيت بيسان واقفة بجانبى، قالت لى إنها رفضت المغادرة معهم، وفضلت الوقوف معى فى المحطة حتى تأتى حافلة أخرى. حينها أردت أن تحتضننى، ولكنى أعلم أنها تخشى عيون سكان المدينة وعيون ساكن السماء.

لا أدرى كيف تحولت مشاعرى فى لحظة. 

ربما لهذا بحت لبيسان بإعجابى بها فى اليوم التالى! ربما!

ففى اليوم التالى وحين وقفنا فى المحطة نفسها فى انتظار الحافلة كنت أراها هى وصنع الله على بعد أمتار ينتظران الحافلة نفسها، أشرت بيدى وسألت بيسان إذا كانت تراهما؟ ولكنها نفت، فظننت من جديد أنه لا وجو لهما إلا فى مخيلتى بالفعل.

بعد ذلك رأيت صنع الله ينظر لى، أو ربما لاحظ وجودى، لا أدرى: هل لاحظ وجودى بالفعل؟ أم أننى الذى أمرته أن يلاحظ هذا الوجود الوهمى؟! 

ولكن فى كل الأحوال حين رآنى أنظر إليهما ضمها إليه.. عانقها، التصق ثديها الذى اختبرته من قبل وعرفت طراوته، بصدره الحجرى.. ولكننى لم أشعر بأى شىء. هزئت من الأمر برمته.. ربما استمددت هذه القوة من وجود بيسان بجوارى فى هذه اللحظة. 

ورغم أن القوة بالنسبة لى لا تتم إلا بالتلاقى، والتماس، فإن وجود بيسان كان قادرًا على أن يشكل مفهومًا آخر للقوة فى نظرى، ربما شىء لا تعرف هى نفسها أننى أستمده من خلالها.

أتت الحافلة وصعد كل من بالمحطة على متنها، رأيتهما وهما يصعدان، وبعدما غادرت الحافلة لم أجد سوى بيسان التى لم تغادر، والتى كان حضورها فى نظرى لا يكتمل بالغياب، كحضورهم. 

فى تلك اللحظة لاحظت وجود أنثى أخرى، محجبة أيضًا، فرعونية الطلة، ولكنها لا تحمل اسم الغائبة، قالت إنها لا تعرف متى ستأتى الحافلة التى تنتظرها منذ أمد بعيد، ولكننى طمأنتها أننى وبيسان معها، والحقيقة أننى كنت أريد أن أقول إن حضور بيسان هو الضامن لها.. أما أنا فلا يعول عليه، لأننى فى تلك اللحظة كنت مجرد مجموعة من الكلمات الصامتة.. وقبل أن أنطق أتت الحافلة التى صعدنا على متنها، وتركنا خلفنا المحطة، وكل الكلمات التى قيلت، وكل الكلمات التى لم تقل.. حتى غابت عنا.. وغبنا.. عنها.