رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أنس

محمد عبداللطيف
محمد عبداللطيف

التفوا على هيئة حلقة فى ليلة قمرية هلّت بضوء ساحر، يتوسطهم عوّاد منطلق على سجيته الصامتة الخجول، وهاموا بتقاسيم نهاوند، وأخذ يتنقل بين المقامات فى خفة ورشاقة حتى تبعثرت الألباب أشلاء، وانتشى الجالسون وقالوا جملًا مقطوعة كلما اشتد الطرب، حتى قال أحدهم لما انتهى فى انفعال:

- حرام عليك!

ابتسم العوّاد فى ظرف ودهاء، وقال أحدهم:

- نبيذ جهنمى!

فرد عليه آخر فى حسرة:

- كيف فاتنا؟!

قام أحدهم بغتة، وسألوه إلى أين:

- إلى الخمار.

- ولكن كيف؟!

- سأذهب وأطلب ما نريده.

- وهل يوجد معك مال.

ضرب كفًا بكف وقال:

- سأذهب على أى حال.

ذهب إلى الضوء الأصفر فى جو ليلى ساكن تداعبه لفحات ونسمات فى حياء، وأخذ الخمار على جنب ووعده بسهرة رائعة.

قالوا فى نفس واحد:

- من هذا؟!

فقال بثقة:

- الخمار 

- إيه اللى جابه؟!

دلهم على ما حدث، وهمس أحدهم فى سره بانفعال:

يلعن أبو تأليفك.

لكن سرعان ما اغرورقت عيناه.

شاطروا الضحكات وهلّت بشائر السكر فى الأرجاء، جلس الخمار صامتًا لائذًا بالعزف لكنه بدأ يشعر بريبة، ولكن سرعان ما انتشى بالعزف والخمر أكثر وأكثر، وفكر فى مصيره إن علم صاحب الخمارة أنه تركها، لكن حتمًا لن يعلم، فلا بد من أنه سكران.

قال أحدهم للعوّاد:

- غنِّ.

- لا أجيد. 

- غنِّ بس. 

- لا أجيد. 

- صه!.. غنِّ وسأتحمل العواقب.

استسلم العوّاد لأنه يعرف أن الرجل عنيد، واندفع بصوت شجى بعدما رشف من كأس النبيذ وحرك يديه فى خفة بين الأوتار فأطلقت لحنًا بديعًا وقال:

عطار بقالى سنة قاعد فى دكانى.. معرفش أهل الهوى ليه نسيوا عنوانى 

ترنموا وتأوهوا وقالوا:

- الله.

- يا راجل ده انت أحسن من اللى غناها.

قال الرجل الذى أقنعه بالغناء:

- مش عارف قيمته.

نظر له العواد نظرة مليئة بالغبطة وأخذ يقهقه.

بعدما فقدوا نصف الوعى، وزادت الغمغمة، صاح أحدهم بغتة:

- نحن الغافلون المكدودون المختفون.

- وغدًا سنصبح فى أصفاد واحدة. 

- يا للمرح والهم. 

- لا مانع من نسيان الحراس والمسئولية والكآبة بين آن وآن.

قال أحدهم بصوت متهدج:

- ربما نأتى إلى هنا بسبب النسيان الدائم لهذا! حقًا نحن الغافلون الحمقى.

غمغم:

ربما.. لكنه أكيد. 

قال أحدهم وقد أعماه الشراب:

- متعوا شبابكم فى فيينا!

فصاح آخر بعد صحوة مباغتة: 

- نحن فى الجنة.

ألقى العوّاد نفسه على عوده بلا تردد وقال فى شجن وصوت لائذٍ فى عالم بعيد:

ليالى الأنس فى فيينا.. نسيمها من هوا الجنة.. نغم فى الجو له رنة سمعها الطير بكى وغنى.

وانتحب أحدهم فى تأثر فرد عليه آخر:

- أنت الطير؟

أخذ يضحك وحده كثيرًا بلا توقف، والأغلبية لاذت بالصمت، لكن فجأة أفلت العود من العوّاد ووقع على الأرض، اختفى الخمار كذلك، وقال أحدهم:

- الخمار ذهب ولذلك يجب أن نذهب.

- من الخمار؟

- يجب أن نذهب له.

- من هذا النائم؟

- لا أعلم الآن ربما هو نائم، هيا فلنذهب للخمار.

- من أنت؟

- ربما أنا الخمار.

أخذ يركض وهم يركضون وراءه دونما هدف ويرددون:

لسا بدرى يا فيينا.... لسا بدرى على الجنة...

جاء بعد دقائق ناس اقتحموا محل السمر:

- لقد ذهبوا! وسنواجه المرار.

- ها هو العوّاد!

أخذ أحدهم يعبث بالعود حتى قطع أوتاره، وبرهن على فعلته بأنه لم يمسكه منذ زمن بعيد، وأخذوا العوّاد ورحلوا.