رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ليلة سقوط العنكبوت

جريدة الدستور

كانت صاحبة شعر أبيض مهوش، خيم العنكبوت ذات يوم على ذكرياتها والتهمها، فراحت تلقى بأشيائها فى نفس المكان الذى ألقت بنفسها فيه ذات يوم، كثيرًا ما جمعت لها تلك الأشياء دمية لطفلتها وملابس لها وصورتهم سويًا، هل كانت ترسل بتلك الأشياء لتنتظرها هناك حيث الرحيل الأخير؟! كانت صاحبة القرار فى عدم زواجى وإلا ما الفائدة من أبناء لستُ إلا وسيطًا يعبرون به لهذا العالم ويتركونه يحاور السراب، رحلت أمى ذات مساء مع شمس قررت أن تشرق وحدها فى اليوم التالى وتركتنى أصاحب الحشرات والحيوانات، أطعم قطة ثم أدعوها للمبيت، ترافقنى الطريق حتى إذا اشتمت رائحة طعام غيرى تركتنى ورحلت، كلب صديقى الذى ربيته هو الحضن الوحيد الذى لا يكذب، تركت لهذه العناكب الحرية فى أن تغزل خيوطها فى سقف الحجرة دون أن أمسحهم بفرشاة أمى كما كانت تفعل وهى تلعنهم وتتهمهم أنهم يجلبون الفقر، هذا المعلق أتأمله كل يوم وأسأله هل ستظل مترقبًا لهذا العالم مثلى كثيرًا، يلقى بخيوطه يمسك بذبابة مسكينة لعنتها فى سرى، ربما سمعنى فقبض عليها وجذبها، وعاد يرقبنى، وتلك تغزل خيوطها تستعد لقضاء ليلة تمتلئ بعدها الحجرة بصغارٍ جدد، وبعد أن أنهى مهمته وتدلى ممسكًا بأحد خيوطها- وهذا يؤرقه- شىء يصعد الحائط ثم يهبط ويعاود الكرّة، تتصارع الصور على شاشة التلفاز استقر على قناة فكاهية موشاة على جانبها بشريط أسود ينعى الأبطال، أتابع تلك المسيرة «أمل الصغيرة ما زالت تبحث عن أمها» تجربة سورية لتحريك ضمير العالم نحو أطفال سوريا اللاجئين، وأتعجب للعالم المجنون الذى تحركه دمى وتخرصه دماء!

وأتذكر هذا الرد «نابالم بنابالم».

أنفث دخان سيجارتى فى الهواء، أرسم به لوحة لا أعرف خطوطها فى البدء ولكنها تنطق وتختفى- ثمة أشخاص كثيرون يهتفون، يسقطون، يحاكمون، ووجهك يترقبنى كطفلة تائهة تبحث عن أبيها فى الزحام ويتلاشى الدخان!

أجيد الاستماع إلى أصوات الأشياء كما تسمع «كيم أدونيزيو» صوت العذاب.

باب جارى الذى يغلقه بعنف، أسمع صوت أنينه يشبه صوت شجرة تحاول الرياح أن تقتلعها.

القلاية التى استعارتها جارتى، حين ردتها متكسرة؛ رأيت دمعاتها وسمعت صوت بكائها بين أطباقى: صوت يشبه سقوط الماء على النار.

صوت فنجان قهوتى المملوء دائمًا، صوت يأتى من بئر عميقة يحثنى على الاستيقاظ!

هذا المكان الضيق ما عاد يستوعب غيظى، كل شىء هنا سمعنى وتعرف على ما بى، فراح يسدّ آذانه، أطلق آهاتى.. لا شىء يسمعها فتعود لى!.

أخرج إلى العالم المفتوح- العالم المفتوح يحوى بلادًا مغلقة، البلاد المغلقة تضم شوارع ضيقة على جانبيها أعمدة طويلة، تسقط ظلًا كثيفًا، ترسم سلمًا طويلًا.. أقفز من درجة لأخرى وهو يتبعنى كما تتبع الظلال الأعمدة!، ضوضاء بعيدة مكتومة، الشارع خالٍ إلا منى والأعمدة وظلينا، تباعدت البيوت فى مشهد أشبه بالحلم، خلا المكان وكأن العالم يسقط فوقى، السماء الزرقاء استحالت رمادية جدًا والنجوم لمبات خضراء تضىء والضوضاء المكتومة تزداد، صمت تام.. انفرجت السماء فأسقطت خيوطًا كثيرة متلاحمة، تنحيت أختبئ، انطفأت النجوم الخضراء وازدادت انفراجة السماء وراحت تتساقط منها قلوب حمراء، وجوه ضاحكة، وداعمة، وأخرى مندهشة، وبعضها دامعة.

وأخيرًا: وجه كبير يخرج لسانه لى وكأنه هو الإيموجى الذى ترسله صاحبة اللمبة الخضراء، امتلأت الأرض بالخيوط ونامت فوقها الوجوه، الوجوه الدامعة والضاحكة راحت تتلفت حولها وكأنها رأتنى، فراحت تقفز نحوى، أسرعت فى الجرى لكنها حاصرتنى فلم أجد سبيلًا غير أعالى البيوت فانصرفت عنى وتابعت المشهد.

الوجوه المندهشة محدقة للسماء تنتظر شيئًا!، انفرجت السماء أكثر فأكثر، وانفجرت أنهار بيضاء.. شفافة.. لزجة، ملأت الأرض وراحت تزداد.. طفت الوجوه فوق النهر الشفاف اللزج.

أتساءل ماذا هناك؟ أعلم جيدًا أن القيامة تكون فى يوم جمعة ترى تعجل الله اليوم، وهل تقوم فى هذا الوقت المتأخر؟

عالمى الضيق الذى ملّ منى كان أفضل من كل هذا، لو ازداد هذا البحر اللزج الذى يشبه كما تقول سناء: «ماءك الوسخ» !، لو زاد أكثر حتمًا سأموت.

توقفت السماء عن القذف، وراحت تُسقطُ أجسادًا لرجال يرتدون سراويل ممزقة.. ملطخة بنفس الماء، نساء كثيرات مسلسلات الأيدى، لكن الجميع بلا رءوس، أجساد فقط، امتلأ المكان بهم يطفون على وجه الماء يسبحون بمهارة، يحاولون البحث عن رءوسهم، تتقافز أمامهم الوجوه ولا يملكون أن يمسكوا بأحدهم فيواصلون السباحة، وما زالت السماء ترسل ما بها فى نفس اللحظة التى راحت تتساقط فيها النجمات الخضراء، راحت تتطاير الصحف، رسائل كثيرة تطير فى الأفق بعضها «ههههههههههه» وبعضها آهات وتنهيدات وأرقام تضم العالم، الرسائل كثيرة- كثيرة جدًا تسقط على أجسادهم، يحاولون الإمساك بها فلا يستطيعون، يأتى صوت عظيم: «اقرأ كتابك» فيزدادون فى السباحة، تلكمهم فى أجسادهم قبضات زرقاء، هناك من تتبعه لكمات أكثر من الآخر، وهناك من سكن فوق صخرة عالية وأمسك بوجه ضاحك، وراح يتابع المشهد وفى يده كتابه الذى تتساقط منه القلوب الحمراء والورود، وأنا المذهول أتابع فى أسى، طفت الخيوط الممزقة على سطح الماء، راحت تعرقل مسيرة السابحين وتمسك بالوجوه.

وما زلت أتساءل: متى أستيقظ إن كنت نائمًا؟ ومتى يمسك هذا العنكبوت بخيوطه؟

لدىّ رغبة قوية بالصراخ قد تعود أمى وتوقظنى إن كنت نائمًا، لكنى أهدأ وأتذكر قول الشاعر «مطالب وحدك بألا تخطئ»، أشعر بأننى أسبح معهم وأثقلنى الماء اللزج، فرحت أنهج، أنتبه على صوت صدرى المتعب فأطمئن نفسى أننى بعيد، الهاتف خرج من دائرة الزمن ما عدت أدرك الوقت، الأشياء ما زالت تسقط وتتطاير، ظهرت نجمة لامعة فى الأفق، انفجرت.. فتحولت لفتاة جميلة أعرفها وطالما بحثت عنها، كانت تجرى وتلبس إحدى فردتى حذاء، ركبت عربة الخيول وانطلقت، تبعتها الساحرة وضربت بعصاها على الكون.. واختفت، تطاير كل شىء إلى أعلى وانفتحت السماء أكثر، راح الماء يتصاعد منه البخار، خرجت منه حيوانات دقيقة تزحف نحو مجارير مدينتنا. السماء تبتلع الصحف، الوجوه تطير لأعلى والأجساد تمسك بها هذه المرة، تسحبها خيوط عظيمة لأعلى بانتظام، تلاحمت الشبكة وصعدت للسماء التى أغلقت أبوابها ولمعت نجومها الخضراء كما كانت، وعادت الضوضاء المكتومة، وعاد شارعنا كما كان، النور يبحث عن مكان، بدأت ظلال الأعمدة فى التلاشى، خشيت أن أسقط فقفزت وهرولت بعيدًا، كان الصوت يتبعنى، «حى على الصلاة»، اغتسلت وخرجت روحى لأعلى المكان، وصليت صلاة لا أعرفها لكنها ذكرتنى بصلاة زوربا. 

ضوضاء بعيدة مرة أخرى، تبعتها.. لا شىء، ولكنها القمامة، يخرج منها صوت، ترقبته جيدًا

الطفلة التى وجدتها فى القمامة، وجدت بجوارها دماء كثيرة، تسيل من حبلها السرى الممزق، وددت أن أتبع تلك الدماء، على أصل الحبل ببعضه، الشمس التى استيقظت الآن لتفضح المشهد، غابت الأمس باكرًا حتى تعد هذا المشهد فى الظلام: «عاهرة تلك الشمس»، البخار المتصاعد من فمى، والذى اعتدت أن أنفثه على زجاج الباص لأرسم عليه قلب وسهم كيوبيد المسكين وحرفينا، الآن تجمّد على الزجاج، وكلما هممت برسم القلب، أبى واستحال السهم مدفعًا.. دبابة.. وصاروخًا!