رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أول محاكمة روائية لـ«مبارك وعصره»

محاكمة مبارك
محاكمة مبارك

نحن الآن فى الثانى من يونيو لعام 2012.

الطائرة التى تحمل الرئيس السابق حسنى مبارك تصل إلى سجن طره، تنفيذًا لأمر قضائى.

يقف مدير مصلحة السجون، اللواء محمد نجيب، أسفل سلم الطائرة، منتظرًا خروج الرئيس.

تمر الدقائق ولم يظهر الضيف الكبير وغير المعتاد.

يسود التوتر فى الأجواء.. أين الرئيس؟

يعلم اللواء محمد نجيب أن ما يخشاه قد حدث.. مبارك يرفض الخروج من الطائرة ويقول إنه يريد النزول لأحد المستشفيات المجهزة، لأن حالته الصحية لا تسمح بمكوثه فى مستشفى السجن.

يضطر الرجل للصعود ومقابله قائده الأعلى حتى وقت قريب.. لكنه يفشل فى إقناعه بالنزول.

وهنا.. يلجأ إلى الخطة البديلة.

استدعى علاء وجمال نجلىّ الرئيس السابق، وطلب منهما التدخل لإقناع والدهما بأن التنفيذ واجب الآن.

وبالفعل يخضع «مبارك» أخيرًا.. ويدخل بقدميه إلى السجن.

من هذا المشهد يبدأ الكاتب الكبير محمد سلماوى روايته الأحدث «أوديب فى الطائرة»، الصادرة عن دار الكرمة، بالتزامن مع معرض القاهرة الدولى للكتاب.

أما «أوديب الملك» فهو «مبارك».. وأما مصر فهى «طيبة».

فى روايته يقيم «سلماوى»، بخياله وكلماته وعباراته، ما يمكن أن نسميه «محاكمة روائية» لرئيس حكم بلدًا 30 عامًا.

فما الذى حكم به «سلماوى» على «مبارك»؟

تعالَ معى لنقرأ ونعرف.

 

ضرب الطاعون «طيبة» وفعل بها ما فعل.. واحتار الناس فى سبب البلاء الذى حلَّ بالبلاد.. ولما فشلت حلول الأرض كانت السماء حاضرة!

احتكم الجميع إلى «زيوس» إله الآلهة، الذى تعلو كلمته فوق الجميع، لمعرفة مَن المتهم.

وكانت المفاجأة.

قالت نبوءة زيوس المقدسة إن الملك أوديب سبب البلاء!

وأذاعت أجهزة الإعلام المحلية والدولية النبوءة على الملأ.. وثار الشعب.

ولم يعد هناك بد من رحيل «أوديب».

وتولى رجاله السلطة من بعده.. وتحت الضغط اضطروا لسجنه.

وجاء اليوم الموعود لإيداعه زنزانته.

كان رئيس أركان الجيوش، الجنرال ديتر، يقف بنفسه أسفل سلم الطائرة.. ولما تأخر نزول «أوديب» صعد هو إليه.

ودار الحوار بين الملك والجنرال.

سأله «ديتر» بأدب: ألن تشرفنا بالنزول يا أوديب؟

نظر إليه «أوديب» فى هدوء وأجاب: لقد قلت إنى لن أنزل من الطائرة.

سأله «ديتر»: لماذا يا أوديب وقد كنت أنتَ الذى أعلنت أنك ستلتزم بالنبوءة وتنفذ ما جاء بها؟

كان رد «أوديب» صارمًا: اسمع أيها الجنرال، لقد بذلت عمرى فى خدمة هذا البلد، فى الحرب وفى السلم، وحين حلّت الكارثة وألّبوا الناس ضدى بسبب الطاعون، الذى لم أتسبب فيه، رفضت أن أترك طيبة وأهرب إلى الخارج، هذا بلدى الذى ولدت به وأخلصت فى خدمته منذ عدت إليه بعد غياب طويل. لقد رفضت دعوات الاستضافة التى جاءتنى من ملوك العالم وحكامه، ولم أفعل هذا لينتهى بى الأمر فى السجن كالمجرمين. إن من رتبوا لى الهروب أمس هم الذين يريدون سجنى اليوم. فقل لهم إنى كما رفضت الهرب أمس فإنى أرفض السجن اليوم. لن يكتب التاريخ أن أوديب العظيم، الذى يهابه الجميع ولا يهاب أحدًا، أنهى حياته مسجونًا كاللصوص وقطاع الطرق.

استمع رئيس الأركان فى صمت إلى ما نطق به «أوديب»، ثم قال: لقد قبلت يا أوديب اللجوء إلى المعبد والاحتكام إلى نبوءة زيوس لمعرفة مَن الذى تسبب فى البلاء الذى حلّ بالبلاد، ولقد ذكرتك النبوءة بالاسم. إن ما ننفذه الآن يا أوديب هو حكم زيوس.

صرخ «أوديب» فى وجهه: ماذا تقول يا رجل؟.. أنا سبب البلاء؟.. الملك أوديب هو سبب بلاء طيبة وخرابها؟.. أأنا الذى جلبت الطاعون إلى البلاد؟

قال الجنرال: هذا ما نطقت به النبوءة، ونبوءة زيوس لا راد لها.

واصل «أوديب» وكأنه لم يسمع رئيس الأركان: أنا القائد الذى حمله الشعب على الأعناق وهتف باسمه. هل نسيتم أين كانت طيبة، وماذا كانت حالتكم؟.. لقد توليت العرش بعد مقتل «لايوس» والبلد على شفا حرب أهلية تهدد بفنائها. قُتل ملككم وانقسمتم على أنفسكم، عبدة بوسيبون يقتلون عبده أورانوس، وعبدة أورانوس يحرقون معاباد بوسيبون، كانت الآلهة على وشك أن تكتب فصل التاريخ فى نهاية طيبة، ولولا حكمتى وحكمى الرشيد ما أنقذت البلاد من مصيرها المحتوم. واليوم تريدون إيداعى السجن لأموت فيه!

لقد هرمت وفعلت بى السنون فعلها، لكنى ما زلت قويًا، وتاريخى المجيد لن يذهب سدى. هل نسيتم الانتصار فى الحرب على إسبرطة؟.. لقد جلبت لكم النصر بعد سنوات الهوان. كانت ضربتى القاضية (الضربة الجوية الأولى) هى التى حققت النصر لقواتنا. ماذا ستفعلون بهذا التاريخ بعد أن تسجنونى؟.. هل ستدرسون قصتى للأطفال فى المدارس؟.. وكيف ستقولون لهم إنكم سجنتم بطل الرواية؟.. أم أنكم ستتناسون تاريخى وتمحونه كأنه لم يكن؟

لا لن يحدث هذا. أنا الملك أوديب القائد المظفر والبطل المغوار. تلك هى الحقيقة التى لا يمكن إنكارها، وتاريخى لن يُمحى من على جدران الزمان. أوديب لن يساق إلى السجن كالقتلة واللصوص.

استمع رئيس الأركان باحترام إلى حديث «أوديب»، ثم همَّ بالكلام، لكن الملك أسكته: لن أنزل من الطائرة.

لم يكن «أوديب» كاذبًا فيما بعض مما قاله.

كانت طيبة «مصر» هى أم البلاد، عاصمة القوة والمجد، منبع الثقافة والعلوم، مركز الفلسفة والفكر، ساحة الموسيقى والغناء.. لكنها كثيرًا ما خاضت الحروب ضد إسبرطة «إسرائيل»، تلك المملكة الغاشمة الطامعة فى ثرواتها.. وبعد عددٍ من الحروب التى انتهت لصالح إسبرطة فرضت تلك المملكة بعدوانها الآثم «نكسة ٦٧» سيطرتها على البلاد.

مرت على طيبة سنوات عصيبة «سنوات ما بعد النكسة»، حتى هب أبناؤها البواسل ضد إسبرطة فشنوا عليها حربًا مفاجئة وانتصروا عليها «أكتوبر ٧٣»، فتحرروا من ربقها بعد سنوات من الهوان، وعادت طيبة مرة أخرى إلى بهائها واستعادت مجدها التليد.

لكن فى عصر الملك لايوس «الرئيس السادات» تراجعت أحوال البلاد، بعد أن مضت نشوة الانتصار، وساد جو من التناحر بين مختلف فئات الشعب، خاصة بين عناصر الأمة البوسيبون والأورانوس «المسلمون والمسيحيون»، حتى كادت طيبة تسقط فى أتون الحرب الأهلية «أحداث الفتنة الطائفية التى شهدتها مصر فى السبعينيات». 

ازداد تذمر الناس من أحوال البلاد، وبدأت تتصاعد المعارضة لحكم «لايوس»، فما كان منه إلا أن ألقى القبض على جميع معارضيه وألقاهم فى السجون «اعتقالات سبتمبر ٨١»، فازداد التوتر وساد الاضطراب، وفى ذروة الأزمة اغتيل لايوس «اغتيال السادات فى حادث المنصة ٦ أكتوبر ٨١».

قتله قطاع الطرق على أبواب المدينة. لكن البعض كان يشك فى تلك الرواية، فقد كان «لايوس» فى سنواته الأخير قد استعدى جميع فئات الشعب «كما السادات» وبدأ شيوخ البلاد يهاجمونه «حدث بالضبط»، فهل هم الذين قتلوه؟ أم حرضوا على قتله؟

أما «أوديب» فقد ولد على أرض طيبة إبان حكم «لايوس» لكنه غادرها مع والديه وهو طفل رضيع. كان والده راعى أغنام، وكان يصحبه معه إلى المراعى والوديان التى كان يسكنها بعيدًا عن طيبة، إلى أن كبر وصار فارسًا شابًا مفتول العضلات، فعاد مرة أخرى إلى أم البلاد التى طالما كان يسمع عن جمالها وعن أمجادها.

ففى أحد الأيام امتطى «أوديب» جواده ومن دون أن يخبر أحدًا اتجه صوب طيبة. دخلها منتصرًا بعد أن قتل الوحش الرابض على أبوابها الذى ظل لسنوات ينشر الرعب بين الناس، فلم يكن أحد يجرؤ على الخروج من أبواب المدينة بعد الغروب أو الدخول إليها، وحين خرج «لايوس» بحثًا عن ذلك الوحش الخرافى اغتيل على أبواب المدينة قبن أن يلقاه.

وحده «أوديب» انتصر على الوحش الذى بث الرعب فى قلوب الناس ولم يره أحد.

وما إن دخل طيبة حتى أنزله الناس من على ظهر جواده، وحملوه على الأعناق، ومضوا به إلى مجلس شيوخ طيبة، حيث قام شيوخ البلاد بمبايعته فأصبح هو ملك طيبة المتوج وتزوج جوكاستا أرملة «لايوس»، وصارت بطولاته تروى فى جميع أسواق المدينة لسنوات... حتى جاء الطاعون.

حل البلاء بطيبة فجأة، وأصابتها اللعنة التى لم يعرف أحد لها سببًا، تراجعت قوتها وتردت أحوالها، فبدأ الزرع يذبل ويموت، وبدأت الحيوانات تنفق، وخلت الأسواق من البضائع، فاتجهت الأنظار كلها إلى «أوديب».

لكنه خذل أهل طيبة ولم يقض على البلاء كما قضى على الوحش، فلا هو يعرف سبب ذلك البلاء ولا من أين جاء، وهكذا ازدادت الأحوال سوءًا، و«أوديب» قابع فى قصره عاجز تمامًا عن وقف تدهور أوضاع البلاد، وطفح الكيل بالناس فلم يعودوا يحتملون استمرار هذه الحال.

خرجت الجماهير إلى الشوارع والميادين فى مظاهرات تصيح وتهتف معربة عن غضبها إزاء ما حل بالبلاد.

فى البداية لم يلق «أوديب» بالًا لتلك القلاقل التى عدها أحداثًا اعتيادية لكل الشعوب، ثم بدأت المظاهرات تتزايد بشكل غير معتاد، وتكرر خروج الناس إلى الشوارع غاضبين متمردين، وبعد أن كانت أعدادهم فى البداية لا تزيد على عشرات فى كل مرة، صاروا يخرجون الآن بالمئات.

لم يعرف «أوديب» ماذا يفعل، فلا هو قادر على رفع البلاء، ولا هو قادر على وقف التظاهرات.

وكان أن اجتمع مع رجاله الكبار.. لكن أحدًا لم يقدم حلًا.. سوى رئيس حرس القصر وحافظ الأمن العام «حبيب العادلى وزير الداخلية».

فما الذى قاله ميناندر رئيس الحرس؟

«إننا نواجه مجموعة من العملاء المخربين الذى يعملون لصالح إسبرطة، ولا وسيلة للتعامل معهم إلا بالقوة، القوة وحدها، فهم لا يفهمون إلا لغة القوة. يجب الاستمرار فى القبض على كل من ينزل الشارع وإلقائه فى السجون. عندئد سيفرون جميعًا كالجرذان ولن يبقى أحد بالشارع».

ثم طلب مهلة قصيرة ليتمم مهمته وينتهى أمر هذه الثورة.

لكن الأمور تصاعدت، ولم تؤت سياسة القمع ثمارها المتوقعة، فقد كان رئيس الحرس كلما ألقى القبض على العشرات خرجت عشرات أخرى إلى الشوارع والميادين، وسرعان ما تحولت المئات إلى ألوف مؤلفة.

وبعد أن كان الناس فى بداية الثورة ينزلون يوم العطلة الأسبوعية ويتمركزون فى الساحة الكبرى صاروا الآن أكثر صلابة فى مواجهة القمع، وأخذوا ينزلون فى كل أيام الأسبوع ويملأون جميع الشوارع والميادين، وتوقفت حال البلاد تمامًا، ولم يعد أحد يذهب إلى العمل، وخلت المكاتب الحكومية من الموظفين، وامتلأت شوارع طيبة وميادينها بالجماهير الغاضبة، التى كانت ما إن تنصرف فى الليل حتى تعود ثانية فى الصباح لتملأ الشوارع من جديد، رافضة أن تعود إلى بيوتها قبل أن ينزل «أوديب» عن العرش.

لم يأت الطاعون من فراغ.. إنه قمة البلاء الذى حل بالبلاد على مدى سنوات حكم «أوديب»!

على مدار ٣ عقود استشرت البطالة فى البلاد، فى الوقت الذى أخذ المقربون من الحكم ودوائره يكنزون الأموال بلا خجل ولا حياء، وكانت المحسوبية والواسطة هما القاعدة فى كل مكان.

والمدهش كان تدهور حال البلاد بسرعة، فالحال لا يطرأ عليه أى تقدم، بل يتراجع مع كل يوم جديد، ويتدنى مستوى معيشة الناس من يوم إلى يوم.

حتى الأحزاب القائمة ورقية لا تأثير لها فى المجتمع، كانت مجموعة من المنتفعين السياسيين الذين لا قيمة لهم.

ومع تفاقم الأوضاع فى طيبة وازدياد الفقر، انتشر فجأة وباء الطاعون فى جميع أنحاء البلاد.

ولأن مستوى الرعاية الصحية متردٍ وحال المستوصفات العلاجية سيئ أخذت أعداد الضحايا ترتفع. وكان الضحايا يموتون بالعشرات كل يوم.

و«أوديب» لا يزال حائرًا.. لا يعرف السبب.. ولا يقدر على فعل شىء... حتى أشار عليه العجوز الأعمى «تيريسياس»، بعد مواجهة ساخنة، بأن «الحق عند الآلهة وحدهم، قد يوحون إلينا به، وقد يلهموننا ببعض ملامحه، لكنهم وحدهم الذين يملكونه، إن كنت جادًا بالفعل فى معرفة الحق فمعبد زيوس العظيم ليس ببعيد، هو كبير الآلهة، هو القضاء وهو القدر، إنه إله الحق والعدل، فاحتكم إليه واستمع إلى كلمته.. ستقول لك نبوءته مَن المذنب».

لكن.. هل يقوى «أوديب» على ذلك؟

مرت الأيام التالية والناس فى الشوارع لا يغادرون مواقعهم، وفوجئ «أوديب» بـ«كريون» رئيس الجيوش يدخل عليه ومعه «توبياس» رئيس مجلس الشيوخ، ووراءهما وفد من أعضاء المجلس.

قال «كريون»: لقد قررنا الاحتكام إلى العدالة. سنطلب النبوءة من زيوس إله العدل وكبير الآلهة، وعليك أن تقبل بذلك، فالحالة تتدهور من يوم إلى يوم ولا يمكن أن نقف مكتوفى الأيدى.

وأضاف «توبياس»: يجب أن نعرف ما سبب البلاء الذى حل بالبلاد، ومن الذى تسبب فيه.

قال «أوديب»: خيرًا فعلتم. الاحتكام إلى إله العدل سيهدينا إلى طريق الصواب.

وتصور «أوديب» أن الزيارة حققت بذلك الغرض منها وأنها ستنتهى عند هذا الحد، لكن زواره لم ينصرفوا.

قال الملك: ماذا هناك؟.. أليس هذا كل شىء؟

رد «توبياس» بسرعة وكأنه كان ينتظر هذا السؤال: لا ليس هذا كل شىء يا أوديب.

فقال «أوديب»: ماذا أيضًا؟ هاتوا كل ما عندكم.

قال «كريون»: اسمع يا أوديب.. الشارع لن يهدأ إلا إذا استجبنا لمطالبه. لقد جربنا كل الحيل، اللين والشدة، لكن لا فائدة.

فقال «أوديب» وقد بدأ يداخله الشك فى نواياهم: ثم ماذا؟

رد «توبياس» بلا تردد: عليك أن تنزل عن عرش طيبة.

نزلت الكلمات على «أوديب» كالصاعقة. لكنه تماسك وقال له فى هدوء غير خالٍ من السخرية: وهل تتصور بحكمتك المعهودة يا شيخ الشيوخ أن مجرد نزولى عن العرش سيهدئ الأوضاع، سينهى المظاهرات، سيعالج الطاعون الذى انتشر فى البلاد بسبب إهمالكم أنتم؟

حاول «توبياس» الرد لكن «أوديب» قاطعه: أجبنى يا رئيس المجلس. أجبنى يا رئيس الجيوش. أجيبونى جميعًا، هل تنازلى عن العرش هو الحل السحرى الذى سيعيد الأمور إلى نصابها؟

هنا قال «توبياس»: لقد تعددت مطالب الجماهير طوال الفترة الماضية، لكنها الآن تركزت كلها فى شخصك أنت يا أوديب باعتبارك ملك البلاد والجالس على عرشها فإذا... 

قاطعه «أوديب»: لقد طال جلوسى على العرش واستماعى إلى ترهاتكم. لقد استعديتم على الشعب بسياساتكم الفاشلة، وأججتم غضب الجماهير بسرقاتكم الفاضحة، والآن تريدون إلقاء اللوم علىَّ؟

هم رئيس مجلس الشيوخ بالكلام، لكن «أوديب» أسكته: لا تحاول الرد. إن جرائمكم ملء السمع والبصر وقد أخطأت أنى سكت عليكم طوال السنين.

... ثم دار حديث طويل بين الثلاثى أنهاه «أوديب» فجأة بكلمات قالها وكأنه يلقى خطابًا إلى الجماهير:

«سأنزل عن عرش طيبة. فقد سئمت وجوهكم الكالحة التى فُرض علىَّ أن أطالعها كل يوم. سأترك القصر من الآن، ولكنه قرار مؤقت، إلى حين تنصفنى النبوءة المقدسة وتبرئ ساحتى. عندئذ اعلموا جميعًا أننى سأعود بكلمة الحق من زيوس العظيم، وسأجلس على هذا العرش الذى لن يستطيع أن ينازعنى فيه أحد. وسأحاسب كل من تسبب فى البلاء الذى حل بالبلاد.

... فلتعلنوا على الناس من اليوم أننا سنطلب نبوءة زيوس وأن كلمته ستكون هى الحكم.

قولوا للناس إن أوديب قد نزل عن عرش طيبة إلى أن يصدر إله العدل نبوءته».

تولى «كريون» الحكم مؤقتًا.. وانتقل «أوديب» وأسرته من القصر إلى خيمة عسكرية شديدة الحراسة. وجلس بين أسرته «زوجته جوكاستا وابنتيه أنتيجونا وهيلينا» لأول مرة منذ مدة طويلة، وقد شعر بالحنين لهذه الأسرة التى كثيرًا ما افتقدها فى القصر الكبير الذى تركه خلفه.

عرضت عليه زوجته الخروج إلى الأناضول للإقامة فى قصر منيف خصصه ملكها لصديقه «أوديب» ليكون ضيفًا شخصيًا عليه.

لكنه رفض كل العروض للخروج: «أوديب لن يهرب من البلاد».

... وفى أيام «الخيمة» ألحت ابنتا «أوديب» عليه أن يحكى لهما قصة الوحش الذى قتله على أبواب طيبة. فقد سمعاها من كل الناس إلا هو.

رد «أوديب» بحدة: ليس هناك ما أحكيه.

... أنا لم أقتل وحوشًا، تلك قصة اخترعها الناس كما اخترعوا قصة الوحش الرابض على أبواب المدينة. لقد جئت إلى طيبة بعد سنين قضيتها فى الغربة فدخلتها من دون عناء... عند مجيئى لم أقابل وحشًا لأنه لم تكن هناك وحوش على أبواب طيبة، لم أقابل إلا بضعة جنود بؤساء ما إن رأونى حتى هجموا علىَّ بعد أن أصدر لهم قائدهم أمرًا بقتلى، فتصيدت لهم وحدى وقتلت قائدهم ففروا من أمامى... ثم تقدمت نحو أبواب المدينة فدخلتها على جوادى كالفرسان وسألنى الناس كيف دخلت والوحش رابض على الأبواب، قلت لهم من كان على أبوابها لم يكن وحشًا، بل كان كائنًا هزيلًا حاول الاعتداء علىَّ فقتلته، ففوجئت بالناس يحملوننى على الأعناق ويعلنون أننى قتلت الوحش الرابض على الأبواب ويتوجهون بى إلى مجلس شيوخ البلاد، حيث نودى بى ملكًا على طيبة!

جاء اليوم المنتظر الذى ستعلن فيه النبوءة بمعبد زيوس. وتجلت الروح المقدسة.

توجه كبير الكهنة ومعه «كريون» إلى حيث عرش زيوس وقال:

أيا زيوس العظيم، أهل طيبة يتضرعون إليك يا ملك الملوك، دلنا بحكمتك الإلهية على سبيل الخلاص الذى حلّ بالبلاد، أعنا على التخلص من الطاعون.

قال «صوت زيوس»: الغمة لن تزول واللعنة لن ترفع إلا بعقاب المذنب.

ثم نطق بالنبوءة الرهيبة:

تزلزلت أعمدة السماء، وزمجرت الريح، بسبب غضب الآلهة يوم قتل أباه وتزوج أمه فأنزلنا عليه اللعنة، وعلى قومه وعلى وطنه البلاء.

وسكت الصوت المهيب، فأخذ «كريون» ينظر إلى كبير الكهنة مستفسرًا، لكنه لم يجد فى وجهه الجواب، فسأله: ما معنى هذا؟

استجمع كبير الكهنة قوته من جديد وتوجه إلى عرش زيوس:

أيا زيوس العظيم، يا إله الآلهة، مَن الذى قتل أباه وتزوج أمه؟

ارتج المعبد من جديد وسُمع صوت صفير ريح مفاجئة هبت، ونطق الصوت بكلمة واحدة: 

«أوديب»!

... دخل «كريون» على «أوديب» وقال له: جئت أخبرك بنبوءة زيوس.

فسأله «أوديب»: ماذا قالت النبوءة؟ هل أعلنت سبب الطاعون الذى حل بالبلاد؟ هل نطقت باسم من تسبب فى البلاء؟

رد «كريون» بوجه صارم: نعم نطقت باسمه.

قال «أوديب»: هل هو من أهل طيبة؟

فرد عليه «كريون»: نعم يا أوديب.

فقال «أوديب»: كائنًا من كان هذا الذى جلب على طيبة غضب الآلهة فيجب أن يلقى جزاءه.

قال «كريون»: لقد أعلنت على الشعب أنك قبلت اللجوء إلى نبوءة المعبد المقدس، وعليك الآن أن تلتزم بما نطقت به النبوءة. عليك أن تقبل إنزال العقاب بالمذنب، فإن لم يعاقب المسئول عما أصابنا فاللعنة لن ترفع عن طيبة.

قال «أوديب»: إن أوديب إذا وعد أوفى، فلا داعى لهذا الحديث الأجوف، وقل لى اسم المذنب؟ مَن هو ذلك المجرم؟

رد «كريون» وقد أخفض صوته: أوديب!

النبوءة قالت إن أوديب هو الذى جلب الطاعون إلى طيبة.

وصاح «أوديب»: بل هى مؤامرة للاستيلاء على الحكم. لقد كنت تطمع فى العرش منذ زمن، وطالما حذرونى منك. لكنى لم أكن ألقى لذلك بالًا. المؤامرة انكشفت الآن. تريد اغتصاب العرش.

تدخلت «جوكاستا» للدفاع عن زوجها أمام شقيقها «كريون» وقالت: ذلك لغز وليس نبوءة. كيف أتى أوديب بالطاعون وتسبب فى ذلك البلاء؟ ألم تفصح النبوءة؟

قال «كريون»: بل أفصحت.

فسأله «أوديب»: ماذا قالت؟

قال «كريون»: قالت إن أوديب قتل والده وتزوج أمه، وبذلك أثار غضب الآلهة فحلت اللعنة.

قال «أوديب»: ماذا تقول أيها المجنون؟ إنى لم أتزوج فى حياتى إلا امرأة واحدة هى شقيقتك، كما أنى لم أقتل والدى. والدى كان راعى أغنام مسكينًا مات وسط أغنامه وبين يدىّ هاتين. وقد دفنته بنفسى فى قبر ليس ببعيد عن هنا، فكفى هذا الهذيان.

قال «كريون»: إن معى مَن سيُجلى الحقيقة.

قالت «جوكاستا»: مَن هذا؟

هنا يظهر العجوز الأعمى «تيريسياس»!

قال «كريون» لـ«تيريسياس»: تكلم.

قال «تيريسياس»: حذار يا أوديب.. لا تصارع الآلهة، وانصع لحكم القضاء والقدر.

صاح «أوديب» فى «تيريسياس»: إذن فأنت ضالع فى المؤامرة أيضًا أيها العجوز الأعمى.

صاحت «جوكاستا»: أيتها الآلهة رحمة بنا.

فرد «تيريسياس»: الآلهة تطلب القصاص. لقد ارتكب أوديب إثمًا كبيرًا فى حق البلاد، فى حق الآلهة، وفى حق السماء، لقد قتل والده وتزوج أمه.

فضحك «أوديب» ضحكة هازئة وهو يقول: كنت على وشك أن أقول لك انظر أمامك جيدًا، فهذه زوجتى وأم بناتى التى شاركتنى الحكم منذ توجت ملكًا. هى جوكاستا شقيقة كريون وأرملة لايوس وليست أمى أيها الأعمى، لكنك بالطبع لا ترى شيئًا، لا تعرف شيئًا.

قال «تيريسياس»: بل أعرف الكثير يا أوديب.

قال «أوديب»: وماذا تعرف أيها الدجال؟

قال العجوز: أعرف أننى منذ سنوات بعيدة أخبرت الملك الذى سبقك على العرش، لايوس العظيم، بنبوءة أخرى من تلك النبوءات المقدسة التى لا راد لها، وهى أن ابنًا من صلبه سيقتله ويتزوج امراته.

اعتلى وجه «جوكاستا» الشحوب، وكأن الدم قد هرب من أوردتها، وقالت بصوت الأم المكلومة: هذا تاريخ قديم فلماذا تستدعيه الآن؟

لكن «تيريسياس» واصل حديثه: لا بد أنك تذكرين ذلك جيدًا يا جوكاستا؟ ألم يحدث أن أخبرتكما بتلك النبوءة؟

قالت بصوت مرتعش: نعم ولكن..

ولم تكمل.

واصل العجوز: لذلك حين رزقت يا جوكاستا بمولود ذكر من صلب لايوس أمر زوجك الملك بقتله، لا بد أنك تذكرين هذا أيضًا.

فلم ترد.

قال: ولا بد أنك تذكرين أيضًا أن قلبك لم يطاوعك على قتل الطفل، وأنك طلبت منى أن أعطيه لمن يرعاه بعيدًا عن طيبة.

قالت «جوكاستا»: لقد مضت على ذلك سنوات طويلة، فلم تنكأ الجراح؟

صاح «تيريسياس» بأعلى صوته: هذا الولد يا جوكاستا هو أوديب زوجك وابنك.

... لقد أعطيت الطفل لراعى أغنام من خارج المدينة، لا بلد له ولا موطن، فاتخذه ولدًا يصاحبه فى ترحاله فى الوديان والجبال.

صاحت «جوكاستا»: لا، لا لا. ثم سقطت مغشيًا عليها.

قال «تيريسياس» لـ«أوديب»: أعرفت الآن الحقيقة يا أوديب؟

فصاح فيه «أوديب»: لا، روايتك مختلفة أيها العجوز، فأنا لم أقتل والدى هذا الذى لم أره ولم أعرفه.

فقال العجوز: قتلته من دون أن تعرفه.

قال «أوديب» فى تحدٍ: أين؟ ومتى؟

فصمت «تيريسياس» ولم يرد.

فقال «أوديب» منتصرًا: ها قد صمت أيها الدجال لأن قصتك عرجاء. أرنى كيف قتلت والدى وإلا سقطت قصتك كلها وثبت ضلوعك فى المؤامرة.

بدأ «كريون» تحقيقًا فى جميع أنحاء البلاد لمعرفة كيف مات «لايوس» ومَن الذى قتله... وتوصلت جهات التحقيق إلى من استطاعت من الجنود الذين كانوا يصاحبون «لايوس» يوم مقتله، والذين كانوا قد هربوا خوفًا من دخول طيبة فى ظل حكم الرجل الذى حاولوا قتله، فأدلوا بتفاصيل ما حدث، وأكدوا أن «أوديب» هو الذى قتل «لايوس» يوم لاقاه مع جنده على أبواب طيبة.

انتشر الخبر بين الناس فزاد غضبهم... وخرج «كريون» فى محاولة لتهدئتهم، فأعلن على الملأ أن «أوديب» سيمضى بقية حياته فى سجن مشدد تكفيرًا عما اقترفه من ذنب عظيم.. وبين يوم وليلة عمت الفرحة جميع أنحاء البلاد، ومَن كانوا يهتفون بالأمس بعبارات الغضب صاروا يرقصون اليوم ويهللون.

... وفى اليوم الموعود دخل «كريون» على «أوديب» مرتديًا بزته العسكرية وأدى له التحية ثم قال:

جئت أخبرك أنك غدًا ستترك الخيمة.

قال «أوديب» هازئًا: هل عدتم أخيرًا إلى رشدكم؟

واصل «كريون» وكأنه لم يسمعه: ستأتيك فى الصباح الطائرة الملكية لتنقلك من هنا.

قال «أوديب»: إلى أين بحق الآلهة؟

رد «كريون»: لقد أبلغتك الرسالة التى حملتنى إياها القيادة العليا.. ليس عندى ما أضيفه.

ومن دون أن يضيف كلمة أخرى أدى التحية العسكرية، ثم استدار وخرج.

وجاء الصباح ومعه الطائرة.. واقتاد الحرس «أوديب» دون أى يعرف وجهته.

وحين بدأ الهبوط التدريجى دقق النظر ليكتشف أن هذا هو مهبط الطائرات بالسجن الحربى.

صاح من دون أن يطلق صوتًا: «يا لها من مؤامرة خسيسة.. ها قد أتممت مؤامرتك يا كريون الكلب».

... وبعد بضعة أيام فى الزنزانة فارق الحياة