رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لغة الشعب الفنان

منذ يومين كنت جالسًا ساعة العصارى فى مقهى شعبى مجاور لمسكنى. رحت أشرب القهوة بهدوء حتى أخذ شاب نحيف هزيل يدور حولى بمقشة وجردل مياه، وراح يكنس الأرض ثم يرشها بالمياه. ضايقتنى حركته حولى فصحت فيه: «كفاية بقى»، فرفع رأسه مبتسمًا بسمة لطيفة وقال: «اكنس ورش.. الرزق يخش»! وكلمة خش، ويخش، فصيحة، ويقال: خش فى البيت أى دخل فيه. وأخذت أتأمل حقيقة أن للشعب المصرى لغة فنان يصوغ بها حتى خبراته البسيطة فى سبيكة من القافية والوزن ليضمن بقاء خبراته حية سهلة التناقل. وقفزت إلى ذاكرتى عبارة قرأتها مخطوطة على ظهر «توك توك»: «دى مش جاية ورث.. دى جاية بخلع الضرس»! ومثلها: «ما حدش باقى لك.. غير دراعك يشيلك»!، وصياغة تلك الخبرات فى سبيكة لغوية محكمة تقطع بأن الفن يجرى فى دماء وروح وتاريخ هذا الشعب الجميل. خلال ذلك لا تفارق الشعب روح الدعابة والنكتة، وقد كتب أحد الباعة على جانب عربة كبدة يقف خلفها: «كبداكى»، على وزن «كنتاكى»، بينما استلهم آخر أغنية أم كلثوم «ماخطرش على بالك يوم تسأل عنى؟»، فغيّر العبارة وكتبها: «ما خطرش على بالك يوم تفطر عندى؟». وفى تلك العملية الإبداعية اليومية يتم الاعتماد على تداعى معانى الكلمات، والجرس المشترك، مثلما فعل سائق سيارة نقل كانت تحمل «زلطًا» وقد كتب على ظهر السيارة: «طوب علينا يا رب»! مستدعيًا إيقاع ومعنى الجملة الشهيرة: «توب علينا يا رب». وخلال ذلك الإبداع المتصل، الذى تنشره فقط خلفيات السيارات، وأرصفة المقاهى، يلجأ الشعب إلى تسهيل نطق الكلمات، حتى لو أدى ذلك أحيانًا إلى تشويه المعنى الأصلى، كأن يقول: «كذب المنجمون ولو صدقوا»، وليس للجملة معنى بهذه الصياغة، أما أصلها فهو: «كذب المنجمون ولو صدفوا» أى ولو تصادف وقوع ما قالوه. لكن جملة «ولو صدقوا» أسهل فى النطق من «ولو صدفوا». وقولهم الرائج: «فلان ثور الله فى برسيمه» ليس له معنى أيضًا، أما أصله وصحته فهو: «ثور لاهى فى برسيمه»، لكن لأن التوقف عند كلمة «لاهى» صعب فقد تحولت إلى الأسهل. وبنفس منطق تسهيل النطق لتسريع التداول صرنا ندلل كل من كان اسمه مصطفى بقولنا «درش»، وهى تحريف لكلمة درويش نقلًا عن إحدى الطرق الصوفية التى كانت تطلق على الفرد من جماعتها «درويش». ويقولون: «عمى حيسى» أى عمى شديد، وهى تحريف لكلمة «عمى حسى» أى العمى الذى يصيب الحاسة، البصر، تمييزًا له عن عمى البصيرة، أما الكلمة الأكثر شيوعًا عندنا وهى كلمة «أيوه»، فهى بدورها تحريف لكلمتى: «أى والله»، ببساطة لأن «أيوه» أسهل. وقد يكون من المهم دراسة تحولات معانى الكلمات ومشتقاتها فى عمل علمى مستقل، يستخلص لنا القوانين التى تقوم عليها لغة الشعب الفنان، الجميل، الذى تظل تعشقه وتجلّه حتى وهو يحرّف الكلمات، ليصل إلى ما ينشده.